كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَقُدْرَتُهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ مَقْدُورِهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَالْأَسْبَابُ لَا يُنْكَرُ وُجُودُهَا وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا وَخَلَقَ الْمُسَبَّبَ بِهَا.
فَمَنْ قَالَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْمَقْدُورِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ.
وَمَنْ قَالَ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً أَيْ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً وَلَيْسَ مُبْتَدَعَةً، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَابِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ، فَإِنَّ السَّبَبَ لَيْسَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِمُسَبَّبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَاَللَّهُ خَالِقُ مَجْمُوعِ الْأَسْبَابِ وَصَارِفُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ.
وَهَذَا هُوَ الْخَلْقُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُجْعَلُ سَبَبًا وَمُؤَثِّرًا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مُسَبَّبٌ فَلَا يُنْفَى هَذَا الْجُزْءُ وَلَا يُعْطَى مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ كَوْنِهِ مُبْدِعًا خَالِقًا وَمِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَأَنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمْ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ، وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَدَرِ مَا تَأَوَّلْتُمُوهُ.
فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ إذَا خَالَفُوا مِنْ ذَلِكَ مَا تَأَوَّلُوهُ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ وَإِذَا قَدَحْتُمْ فِي الْمُعْتَزِلَةِ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَخَالَفُوهُ فِي السُّنَنِ وَالْآثَارِ، قَدَحُوا فِيكُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَإِذَا نَسَبْتُمُوهُمْ إلَى الْقَدْحِ فِي السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ نَسَبُوكُمْ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِيمَا تَذُمُّونَهُمْ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ يَذُمُّونَكُمْ بِنَظِيرِهِ، وَلَا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ مَا ابْتَدَعْتُمُوهُ، وَمَا وَافَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا سَلِيمًا مِنْ التَّنَاقُضِ وَالتَّعَارُضِ مَحْفُوظًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
وَبِالْجُمْلَةِ فَعَامَّةُ مَا ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَعَابُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ لَكُمْ مِنْهُ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، بَلْ تَارَةً تَكُونُونَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي أُصُولِ ضَلَالِهِمْ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا، وَنَبَذُوا بِهَا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُنَزِّهُونَهُ مِنْ شَيْءٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مُجَرَّدِ رَأْيِهِمْ فِي ذَلِكَ.

الصفحة 642