كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَإِذَا اسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِشْهَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِمَادِ وَالِاعْتِقَادِ، وَمَا خَالَفَ قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمْ، وَاسْتَخَفُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَمَّوْهُمَا ظَوَاهِرَ.
وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] ، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، أَوْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ هِيَ عُمْدَتَهُمْ وَلَكِنْ يَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَلَا حُرْمَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ، بَلْ تَارَةً يَرُدُّونَهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَهَا، ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا وَضَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ قَوَاطِعُ عَقْلِيَّةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّةَ تُرَدُّ لِأَجْلِهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَإِمَّا بِالتَّفْوِيضِ، وَإِمَّا بِالتَّكْذِيبِ.
وَأَنْتُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَمِنْهُمْ أَخَذْتُمُوهَا. وَأَنْتُمْ فُرُوخُهُمْ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: الْأَشْعَرِيَّةُ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ، لَكِنْ لَمَّا شَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَسَادُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَفَرَتْ الْقُلُوبُ عَنْهُمْ، صِرْتُمْ تُظْهِرُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَ مُقَارَبَتِكُمْ أَوْ مُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَنْفُسِكُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، وَجَعَلْتُمْ نَفْيَ بَعْضِ الصِّفَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ.
وَسَمَّوْا مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْكَلَامِ الْفَاسِدِ إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الدَّلِيلِ أُصُولَ الدِّينِ، وَأَنْتُمْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَمَّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِهَذَا الْكَلَامِ، بَلْ عَلِمَ مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَالَةَ السَّمْعِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ كَمَا تَظُنُّونَهُ أَنْتُمْ وَهُمْ حَتَّى جَعَلْتُمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ إمَّا هُوَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمَوْقُوفِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ، ثُمَّ جَعَلْتُمْ تَصْدِيقَ الْمُخْبِرِ وَهُوَ الرَّسُولُ مَوْقُوفًا عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَهُمْ

الصفحة 643