كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

الْعَقْلِيَّاتِ، وَجَعَلُوا مِنْهَا نَفْسَ الصِّفَاتِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَوَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْهَا نَفْيَ كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ، وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا الْقَدَرَ حَتَّى أَبْطَلْتُمْ مَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ. بَلْ مَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمُنَاسَبَاتِ.
وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِنَفْيِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تُجْعَلَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا سَوَاءً فِي أَنْفُسِهَا، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزِّنَا إلَّا مِنْ جِهَةِ حُكْمِ الشَّارِعِ بِإِيجَابِ أَحَدِهِمَا وَتَحْرِيمِ الْآخَرِ فَصَارَ قَوْلُكُمْ مَدْرَجَةً إلَى فَسَادِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقُرْآنَ ضَرَبَ اللَّهُ فِيهِ الْأَمْثَالَ، وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُ بِهَا مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: كَالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِمْكَانِ الْمَعَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ وَإِنَّ عَامَّةَ مَا يُثْبِتُهُ النُّظَّارُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ، فَإِنَّكُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ تُثْبِتُونَ كَثِيرًا مِمَّا يُثْبِتُونَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بِطُرُقٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ، مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنْ التَّكْذِيبِ بِكَثِيرٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.
وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ الَّذِي وَافَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ إلَّا بِتَكْذِيبِهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، بَلْ يُكْفَرُ بِبَعْضِهِ وَيُؤْمَنُ بِبَعْضِهِ فَيُهْدَمُ مِنْ الدِّينِ جَانِبٌ وَيُبْنَى مِنْهُ جَانِبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ ثَابِتٍ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَسَعُ ذَلِكَ لَفَصَّلْنَاهُ، فَإِنَّا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ، مِثْلُ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ إلَّا بِنَفْيِ صِفَاتِهِ أَوْ بَعْضِهَا الَّتِي يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهَا تَعْطِيلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ مُثْبِتًا لَهُ نَافِيًا لَهُ، مُقِرًّا بِوُجُودِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِالتَّنَاقُضِ.
وَأَمَّا الْعَقْلِيَّاتُ فَإِنَّكُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْفَلَاسِفَةَ عَلَى أُصُولٍ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا فَسَادُ مَا بَيَّنْتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا سَلَّمْتُمْ لَهُمْ أَنَّ الْأَعْرَاضَ وَهِيَ صِفَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ أَوْ تَدُلُّ عَلَى إمْكَانِهِ كَانُوا مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْ الرَّبِّ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى فَتَنْقَطِعُونَ مَعَهُمْ.

الصفحة 644