كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

ثُمَّ أَنْتُمْ إنَّمَا اسْتَدْلَلْتُمْ عَلَى الْمُتَفَلْسِفَةِ بِأَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقَدِيمَ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ، وَلَمَّا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ أَلْزَمُوكُمْ أَوَّلَ الْحَوَادِثِ فَقَالُوا ذَلِكَ الْحَادِثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِهِ سَبَبٌ، فَإِنْ كَانَ لِحُدُوثِهِ سَبَبٌ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ دَلِيلَكُمْ عَلَيْهِمْ إذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ، وَامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحُدُوثِهَا سَبَبٌ جَازَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا يُبْطِلُ جَمِيعَ أُصُولِكُمْ وَأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَيُبْطِلُ إثْبَاتَكُمْ بِوُجُودِ الصَّانِعِ. فَأَنْتُمْ مَعَ الْفَلَاسِفَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تُجَوِّزُوا حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَيَبْطُلُ دَلِيلُكُمْ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَثْبَتُّمْ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ عِنْدَكُمْ.
وَإِمَّا أَنْ لَا تُجَوِّزُوا ذَلِكَ فَيَبْطُلَ أَيْضًا دَلِيلُكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ دَلِيلُكُمْ الَّذِي هُوَ أَصْلُ أُصُولِكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يُوَافِقُونَكُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنْ خِطَابُ الْفَلَاسِفَةِ لَهُمْ كَخِطَابِ الْفَلَاسِفَةِ لَكُمْ؛ وَأَمَّا خِطَابُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَكُمْ: إذَا مَا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْقُولِ بَيْنَ قِيَامِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَا قَامَ بِهِ الْأَعْرَاضُ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا، وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَعْرَاضُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَالْجِسْمُ حَادِثٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا.
وَيَقُولُ لَكُمْ الْمُعْتَزِلِيُّ: إنَّ قِيَامَ الْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمَحَلٍّ لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ وَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ.
وَكَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ قُلْتُمْ لَهُمْ: كَمَا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ، وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا وَتَقُومُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ جِسْمًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِعِلْمِيٍّ، وَلَا يُحْمَلُ بِهِ انْقِطَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، إذْ يُقَالُ لَكُمْ: الْمُعْتَزِلَةُ مُخْطِئُونَ إمَّا فِي قَوْلِكُمْ إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَثْبُتُ لِغَيْرِ

الصفحة 645