كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَيُخَاوِضُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْمِلُونَ الطَّيَالِسَةَ، فَأَفْصَحُوا بِمَعَانِيهِمْ وَصَاحُوا بِسُوءِ ضَمَائِرِهِمْ. وَنَادَوْا عَلَى خَبَايَا نُكَتِهِمْ.
فَيَا طُولَ مَا لَقُوا فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ سُيُوفِ الْخُلَفَاءِ وَأَلْسُنِ الْعُلَمَاءِ وَهِجْرَانِ الدَّهْمَاءِ، فَقَدْ شُحِنَتْ كُتُبُ تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ مَقَالَاتِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، وَدَأْبِ الْخُلَفَاءِ فِيهِمْ، وَدَقِّ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إخْرَاجِهِمْ مِنْ الْمِلَّةِ.
ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ الْوَحْشَةُ، وَطَالَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ، وَأَعْيَتْهُمْ الْحِيلَةُ، إلَّا أَنْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ لِأَوَّلِيهِمْ وَالرَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَيَصُفُّوا كَلَامَهُمْ صَفًّا يَكُونُ أَلْوَحَ لِلْأَفْهَامِ وَأَنْجَعَ فِي الْعَوَامّ مِنْ أَسَاسِ أَوَّلِهِمْ، لِيَجِدُوا بِذَلِكَ الْمَسَاغَ وَيَتَخَلَّصُوا مِنْ خِزْيِ الشَّنَاعَةِ، فَجَاءَتْ بِمَخَارِيقَ تَتَرَاءَى لِلْغَبِيِّ بِغَيْرِ مَا فِي الْحَشَايَا.
يَنْظُرُ النَّاظِرُ الْفَهْمَ فِي حَذَرِهَا فَيَرَى مُخَّ الْفَلْسَفَةِ يَكْسُو لِحَاءَ السُّنَّةِ، وَعَقْدَ الْجَهْمِيَّةِ يَنْحَلُ أَلْقَابَ الْحِكْمَةِ،، يَرُدُّونَ عَلَى الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] فَيُنْكِرُونَ الْغُلَّ، وَيُنْكِرُونَ الْيَدَ، فَيَكُونُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ الصِّفَةَ وَنَفَى الْعَيْبَ وَالْيَهُودُ أَثْبَتَتْ الصِّفَةَ وَأَثْبَتَتْ الْعَيْبَ، وَهَؤُلَاءِ نَفَوْا الصِّفَةَ كَمَا نَفَوْا الْعَيْبَ.
وَيَرُدُّونَ عَلَى النَّصَارَى فِي مَقَالِهِمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ، فَيَقُولُونَ: لَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، فَيُبْطِلُونَ الْقُرْآنَ، فَلَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ أَنَّ كَلَامَ أَوَّلِيهِمْ وَكَلَامَ آخِرِيهِمْ كَخَيْطِ السَّحَّارَةِ،، فَاسْمَعُوا الْآنَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، وَانْظُرُوا مَا فَضَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ: أُولَئِكَ قَالُوا - قَبَّحَ اللَّهُ مَقَالَتَهُمْ - إنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِكُلِّ مَكَان، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَ هُوَ فِي مَكَان، وَلَا يُوصَفُ بِأَيْنَ.
وَقَدْ قَالَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ لِجَارِيَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ " أَيْنَ اللَّهُ "؟ .
وَقَالُوا: هُوَ مِنْ فَوْقُ كَمَا هُوَ مِنْ تَحْتُ، لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ وَلَا يُوصَفُ بِمَكَانٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْكَرُوا الْجِهَةَ وَالْحَدَّ؛ وَقَالَ أُولَئِكَ: لَيْسَ

الصفحة 647