كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

لَهُ كَلَامٌ إنَّمَا خَلَقَ كَلَامًا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ تَكَلَّمَ مَرَّةً فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ مُذْ تَكَلَّمَ لَمْ يَنْقَطِعْ الْكَلَامُ وَلَا يُوجَدُ كَلَامُهُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ هُوَ بِهِ.
ثُمَّ تَقُولُونَ: لَيْسَ هُوَ فِي مَكَان: ثُمَّ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ صَوْتٌ وَلَا حُرُوفٌ، وَقَالُوا هَذَا زَاجٌ وَوَرَقٌ، وَهَذَا صُوفٌ وَخَشَبٌ، وَهَذَا إنَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّفْسُ وَأُرِيدَ بِهِ النَّقْرُ، وَهَذَا صَوْتُ الْقَارِئِ مَا تَرَى مِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبِيحٌ؛ وَهَذَا لَفْظُهُ أَوَ مَا تَرَاهُ يُجَازِي بِهِ حَتَّى قَالَ رَأْسٌ مِنْ رُءُوسِهِمْ: أَوَ يَكُونُ قُرْآنٌ مِنْ لَبَدٍ؟ وَقَالَ آخَرُ مِنْ خَشَبٍ؛ فَرَاعُوا فَقَالُوا هَذَا حِكَايَةٌ عُبِّرَ بِهَا عَنْ الْقُرْآنِ، وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ مَرَّةً وَلَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالُوا: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا مِنْ فُخُوخِهِمْ يَصْطَادُونَ بِهِ قُلُوبَ عَوَامِّ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَفَظَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ الذُّكُورُ بِمَرَّةٍ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ الْإِنَاثُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ.
وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا صِفَةَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: وَجْهٌ كَمَا يُقَالُ وَجْهُ النَّهَارِ وَوَجْهُ الْأَمْرِ وَوَجْهُ الْحَدِيثِ، وَعَيْنٌ كَعَيْنِ الْمَتَاعِ، وَسَمْعٌ كَأُذُنِ الْجِدَارِ، وَبَصَرٌ كَمَا يُقَالُ جِدَارُهُمَا يَتَرَاءَانِ، وَيَدٌ كَيَدِ الْمِنَّةِ وَالْعَطِيَّةِ، وَالْأَصَابِعُ كَقَوْلِهِمْ خُرَاسَانَ بَيْنَ أَصَابِعِ الْأَمِيرِ، وَالْقَدَمَانِ كَقَوْلِهِمْ جَعَلْت الْخُصُومَةَ تَحْتَ قَدَمِي، وَالْقَبْضَةُ كَمَا قِيلَ فُلَانٌ فِي قَبْضَتِي، أَيْ: أَمْلِكُ أَمْرَهُ.
وَقَالُوا: الْكُرْسِيُّ الْعِلْمُ؛ وَالْعَرْشُ الْمُلْكُ؛ وَالضَّحِكُ الرِّضَا؛ وَالِاسْتِوَاءُ الِاسْتِيلَاءُ وَالنُّزُولُ الْقَبُولُ، وَالْهَرْوَلَةُ مِثْلُهُ؛ فَشَبَّهُوا مِنْ وَجْهٍ وَأَنْكَرُوا مِنْ وَجْهٍ؛ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَتَعَدَّوْا الظَّاهِرَ وَرَدُّوا الْأَصْلَ وَلَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا وَلَمْ يُبْقُوا مَوْجُودًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالْعِبَارَةِ بِالْأَلْسِنَةِ؛ فَقَالُوا لَا نُفَسِّرُهَا بِجَرْيِهَا عَرَبِيَّةً كَمَا وَرَدَتْ.
وَقَدْ تَأَوَّلُوا تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْخَبِيثَةَ أَرَادُوا بِهَذِهِ الْمَخْرَقَةِ أَنْ يَكُونَ عَوَامُّ الْمُسْلِمِينَ أَبْعَدَ غِيَابًا عَنْهَا وَأَعْيَا ذَهَابًا مِنْهَا لِيَكُونُوا أَوْحَشَ عِنْدَ ذِكْرِهَا وَأَشْمَسَ عِنْدَ سَمَاعِهَا وَكَذَبُوا، بَلْ التَّفْسِيرُ أَنْ يُقَالَ وَجْهٌ، ثُمَّ يُقَالُ: كَيْفَ؟ وَلَيْسَ كَيْفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ مَقَالِ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا الْعِبَارَةُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] () وَإِنَّمَا قَالُوا

الصفحة 648