كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فِي الطَّبَقَةِ الثَّامِنَةِ، قَالَ: وَفِيهَا نَجَحَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّبَقَةَ التَّاسِعَةَ، وَذَكَرَ فِيهَا كَلَامَ مَنْ ذَكَرَهُ فِيهِمْ. ثُمَّ قَالَ: قَرَأْتُ كِتَابَ مَحْمُودٍ الْأَمِيرِ بَحَثَ فِيهِ عَلَى كَشْفِ أَسْتَارِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَالْإِفْصَاحِ بِعَيْبِهِمْ وَلَعَنَهُمْ حَتَّى كَانَ قَدْ قَالَ فِيهِ: أَنَا أَلْعَنُ مَنْ لَا يَلْعَنُهُمْ فَطَارُوا لِلَّهِ فِي الْآفَاقِ لِلْحَامِدِينَ كُلَّ مَطَارٍ، وَسَارُوا فِي الْمَادِحِينَ كُلَّ مَسَارٍ، لَا تَرَى عَاقِلًا إلَّا وَهُوَ يَنْسُبُهُ إلَى مَتَانَةِ الدِّينِ وَصَلَابَتِهِ، وَيَصِفُهُ بِشَهَامَةِ الرَّأْيِ وَنَجَابَتِهِ فَمَا ظَنُّك بِدِينٍ يَخْفَى فِيهِ ظُلْمُ الْعُيُوبِ وَتَتَجَلَّى عَنْهُ بِهِمْ الْقُلُوبُ، وَدِينٍ يُنَاجِي بِهِ أَصْحَابُهُ، وَتَبَرَّى مِنْهُ أَرْبَابُهُ، وَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْكَتَاتِيبِ، وَيُجْهَرُ بِهِ فِي الْمَحَارِيبِ، وَحَدِيثُ الْمُصْطَفَى
يُقْرَأُ فِي الْجَوَامِعِ، وَيُسْتَمَعُ فِي الْمَجَامِعِ وَتُشَدُّ إلَيْهِ الرِّحَالُ، وَيُتَّبَعُ فِي الْبَرَارِيِّ. وَالْفُقَهَاءُ فِي الْقَلَانِسِ يُفْصِحُونَ فِي الْمَجَالِسِ، وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْخَفَايَا يُرْسَلُ بِهِ الزَّوَايَا، قَدْ أُلْبِسَ أَهْلُهُ الذِّلَّةَ وَاسْتَعَرَ بِهِمْ ظُلْمُهُ يَرْمُونَ بِالْأَلْحَاظِ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ الْحُفَّاظِ، يُسَبُّ بِهِمْ أَوْلَادُهُمْ، وَتَبْرَأُ مِنْهُمْ أَوْدَاؤُهُمْ يَلْعَنُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ يَتَلَاعَنُونَ.
ثُمَّ إنَّهُ جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الْقَائِمِ فِي مَمْلَكَةِ السَّلَاجِقَةِ ظَفَرْلَنْكْ وَذَوِيهِ لَعْنُ الْمُبْتَدِعَةِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِمْ الْأَشْعَرِيَّةَ لِقَصْدِ التَّشَفِّي وَالتَّسَلِّي فَإِنَّهُ ذَكَرَ رِسَالَةَ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيّ إلَى الْوَزِيرِ فِي اسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ، قَالَ فِيهَا: " ثُمَّ إنَّ السُّلْطَانَ - أَعَزَّ اللَّهُ نَصْرَهُ وَصَرَفَ هِمَّتَهُ الْعَالِيَةَ إلَى نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَقَمْعِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ لِلْكَافَّةِ حُسْنُ اعْتِقَادِهِ بِتَقْرِيرِ خُطَبَاءِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ عَلَى لَعْنِ مَنْ اسْتَوْجَبَ اللَّعْنَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ بِبِدْعَتِهِ، وَأَيِسَ أَهْلُ الزَّيْغِ عَنْ زَيْغِهِ عَنْ الْحَقِّ وَمَيْلِهِ عَنْ الْقَصْدِ، فَأَلْقَوْا فِي سَمْعِهِ مَا فِيهِ مَسَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَافَّةً وَمُصِيبَتُهُمْ عَامَّةً مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ لَا يَذْهَبُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا يَسْلُكُونَ فِي التَّشْبِيهِ طُرُقَ الْمُجَسِّمَةِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا لِيَلْبَسُوا بِالْأُسْوَةِ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَاءَةِ عَمَّا يَسُوءُهُمْ مِنْ اللَّعْنِ وَالْقَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْمَنْصُورَةِ " وَذَكَرَ تَمَامَ الرِّسَالَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمُسَاءَلَتِهِ الْمَنْعَ مِنْ إدْخَالِهِمْ فِي اللَّعْنَةِ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ: وَإِنَّمَا كَانَ انْتِشَارُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ

الصفحة 651