كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

الْمُتَقَدِّمِينَ، وَجَحَدُوا عَذَابَ الْقَبْرِ وَأَنَّ الْكُفَّارَ فِي قُبُورِهِمْ يُعَذَّبُونَ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَدَانُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَظِيرًا لِقَوْلِ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] ، فَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَقَوْلِ الْبَشَرِ؛ وَأَثْبَتُوا أَنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ الشَّرَّ نَظِيرًا لِقَوْلِ الْمَجُوسِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ خَالِقَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَخْلُقُ الْخَيْرَ، وَالْآخَرُ يَخْلُقُ الشَّرَّ.
وَزَعَمَتْ الْقَدَرِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْخَيْرَ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ مَا لَا يَكُونُ خِلَافًا لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَا يَشَاءُ لَا يَكُونُ، وَرَدًّا لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، فَأَخْبَرَ أَنَّا لَا نَشَاءُ شَيْئًا، إلَّا وَقَدْ شَاءَ أَنْ نَشَاءَهُ، وَلِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] ، وَلِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وَلِقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] () .
وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُمْ دَانُوا بِدِيَانَةِ الْمَجُوسِ، وَضَاهَوْا قَوْلَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَالِقَيْنِ كَمَا زَعَمَتْ الْمَجُوسُ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ كَمَا قَالَتْ الْمَجُوسُ ذَلِكَ؛ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ لِأَنْفُسِهِمْ رَدًّا لِقَوْلِ اللَّهِ: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] ، وَانْحِرَافًا عَنْ الْقُرْآنِ وَعَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ.
وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَنْفَرِدُونَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ دُونَ رَبِّهِمْ، وَأَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ غِنًى عَنْ اللَّهِ وَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُدْرَةِ عَلَى مَا لَمْ يَصِفُوا اللَّهَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَثْبَتَتْ الْمَجُوسُ لِلشَّيْطَانِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّرِّ مَا لَمْ يُثْبِتُوهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

الصفحة 654