كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ هَذَا الِاعْتِقَادَ مَا أَوْضَحَهُ وَأَبَيْنَهُ، وَاعْتَرِفُوا بِفَضْلِ هَذَا الْإِمَامِ الْعَالِمِ الَّذِي شَرَحَهُ وَبَيَّنَهُ، وَانْظُرُوا سُهُولَةَ لَفْظِهِ فَمَا أَفْصَحَهُ وَأَبَيْنَهُ، وَكُونُوا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَتَبَيَّنُوا فَضْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَاعْرِفُوا إنْصَافَهُ، وَاسْمَعُوا وَصْفَهُ لِأَحْمَدَ بِالْفَضْلِ وَاعْتِرَافَهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا فِي الِاعْتِقَادِ مُتَّفِقَيْنِ، وَفِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَذْهَبِ السُّنَّةِ غَيْرُ مُفْتَرِقَيْنِ.
وَلَمْ تَزَلْ الْحَنَابِلَةُ بِبَغْدَادَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ عَلَى مَمَرِّ الْأَوْقَاتِ تَعْتَضِدُ بِالْأَشْعَرِيَّةِ عَلَى أَصْحَابِ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى مُبْتَدِعٍ فَبِلِسَانِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَتَكَلَّمُ، وَمَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةٍ فَمِنْهُمْ يَتَعَلَّمُ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي زَمَنِ أَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ وَوَزَارَةِ النَّظَّامِ وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ الِانْحِرَافُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لِانْحِلَالِ النَّظَّامِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الْحَنَابِلَةِ طَائِفَةٌ تَغْلُو فِي السُّنَّةِ وَتَدْخُلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهَا حُبًّا لِلْحُقُوقِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَا عَارَ عَلَى أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ صَنِيعِهِمْ وَلَيْسَ يَتَّفِقُ عَلَى ذَلِكَ رَأْيُ جَمِيعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الدَّارَقُطْنِيِّ مَا قَرَأْته عَلَى عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَضَرِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو النَّجِيبِ الْأُرْمَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ شَاهِينَ يَقُولُ: رَجُلَانِ صَالِحَانِ بُلِيَا بِأَصْحَابِ سُوءٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا رَدَّهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ فِيمَا وَصَفَهُ مِنْ مَثَالِبِ الْأَشْعَرِيِّ: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ تَصْنِيفَ الْإِبَانَةِ.
قَالَ الْأَهْوَازِيُّ: وَلِلْأَشْعَرِيِّ كِتَابٌ فِي السُّنَّةِ قَدْ جَعَلَهُ أَصْحَابُهُ وِقَايَةً لَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَتَوَلَّوْنَ بِهِ الْعَوَامَّ مِنْ أَصْحَابِنَا سَمَّاهُ " كِتَابُ الْإِبَانَةِ " صَنَّفَهُ بِبَغْدَادَ لَمَّا دَخَلَهَا. فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ الْحَنَابِلَةُ وَهَجَرُوهُ.
وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُمْرَانِيَّ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ الْأَشْعَرِيُّ إلَى بَغْدَادَ جَاءَ إلَى الْبَرْبَهَارِيِّ فَجَعَلَ يَقُولُ رَدَدْت عَلَى الْجُبَّائِيُّ وَعَلَى أَبِي هَاشِمٍ وَنَقَضْتُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَلَى الْمَجُوسِ، فَقُلْت وَقَالُوا. وَأَكْثَرَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ الْبَرْبَهَارِيُّ: مَا أَدْرِي مِمَّا قُلْتَ قَلِيلًا

الصفحة 660