كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

كَانَ مُوَثِّرًا فِي الْعَقْدِ مُلْحِقًا لَهُ بِالسِّفَاحِ، وَجَرَى مِنْ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَتَيْ الْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا تَبَيَّنَ بِهِ حُكْمُهَا بِأَرْشَدِ دَلِيلٍ، وَظَهَرَتْ الْخَاصَّةُ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الْمُحَلِّلُ لَعْنَةَ الرَّسُولِ وَلِمَا سَمَّاهُ مِنْ بَيْنِ الْأَزْوَاجِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَتَبَيَّنَتْ مَآخِذُ الْأَئِمَّةِ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْصَارِ، وَظَهَرَتْ الْمَدَارِكُ وَالْمَسَالِكُ أَثَرًا وَنَظَرًا حَتَّى أَشْرَقَ الْحَقُّ وَأَنَارَ، فَانْتَبَهَ مَنْ كَانَ غَافِلًا مِنْ رَقْدَتِهِ، وَشَكَا مَا بِالنَّاسِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ظُهُورِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الشَّنِيعَةِ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ بِدَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، سَأَلَ أَنْ أُعَلِّقَ فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ تَبْصِرَةً لِلْمُسْتَرْشِدِ، وَحُجَّةً لِلْمُسْتَنْجِدِ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَهَوِّرِ وَالْمُتَلَدِّدِ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ.
فَأَجَبْتُهُ إجَابَةَ الْمُتَحَرِّجِ مِنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، الْمَسْئُول الْخَائِفِ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَخَلَفُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّتِي أَنْ أَشْفَعَ الْكَلَامَ فِيهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ بَلْ أَقْتَصِرَ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ حَقُّ السَّائِلِ.
فَالْتَمَسَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ مُكَرِّرًا لِلِالْتِمَاسِ تَقْرِيرَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي هِيَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَسَاسٌ، وَهِيَ: " بَيَانُ حُكْمِ الِاحْتِيَالِ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ " " وَحِلِّ الْعُقُودِ " " وَحِلِّ الْمُحَرَّمَاتِ " بِإِظْهَارِ صُورَةٍ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْمُحْتَالِ لَكِنْ جِنْسُهَا مَشْرُوعٌ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ غَيْرِ اعْتِلَالٍ، فَاعْتَذَرْتُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُفَصَّلَ فِي هَذَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ طَوِيلٍ.
وَلَكِنْ سَأُدْرِجُ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْجُمَلِيِّ مَا يُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ التَّفْصِيلِ، بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ لِلَّبِيبِ مَوْقِعُ الْحِيَلِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمَتَى حَدَثَتْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُهَا عِنْدَ السَّلَفِ الْكِرَامِ، وَمَا بَلَغَنِي مِنْ الْحُجَّةِ لِمَنْ صَارَ إلَيْهَا مِنْ الْمُفْتِينَ، وَذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَذَلِكَ بِكَلَامٍ فِيهِ اخْتِصَارٌ؛ إذْ الْمَقَامُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِكْثَارَ.
وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَيَنْفَعُنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَسْتَعْمِلُنَا بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَجْعَلُهُ مُوَافِقًا لِشِرْعَتِهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ مُوصِلًا إلَى أَفْضَلِ حَالٍ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

الصفحة 7