كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس

ومضى إلى همذان وجلس على سرير ملكه وذلك في سنة ثمان. سيأتي ذكر ذلك إن شاء الله.
وتوفي في هذه السنة بدمشق من المعروفين من أصحاب السلطان صفي الدين أبو الفتح بن القابض، وكانت وفاته في الثالث والعشرين من رجب. ولقد كان سريا، وبالحمد حريا، وفي حلبة المكارم جريا، ومن الخيانة في ولايته بريا، ومن العار عريا، ولم يزل زند مضائه وريا.
وكانت له سياسة ورياسة، ونفس ونفاسة، ورأى وفراسة، وفطنة وكياسة. ومروة وفتوة، وثبات جنان وقوة. وكان قد خدم السلطان أيام عدمه، وهو في كفالة أبيه وعمه. فلما ملك مصر امرجه في أموالها، وحكمه في أعمالها. حتى نال المنى، ووجد الغنى. فقال له: قد اكتفيت واستغنيت، وإن صرفت الآن ما باليت، فاصرفني عن العمل. فقد نلت غاية الأمل، فعاش غنيا، ومات جشريا. وورث السلطان بعض ماله، وذلك ما فضل عن افضاله، فإنه فرق على مماليكه أملاكه وماله. وأخفى بعد وفاته بما بذله حاله.
وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول توفي الحكيم الموفق ابن مطران، وكان بارعا ظريفا، نظيفا عفيفا. وفقه الله في بدايته لهداية الإسلام، ونال أسباب الاحترام. وتقدم عند السلطان، وما شأنه كبر وهو كبير الشان. وكانت له دراية ودراسة،
وذكاء وفراسة.
ولم يزل متلطفا في طبه، متعطفا بحبه. متحببا إلى القلوب، متقلبا من قبوله في المحبوب. صبيح البهجة، فصيح اللهجة، صحيح الحجة بوضوح المحجة. ولم يزل عند السلطان وذوي الجاه جاه، ولجده انتباه، ولمداواته بالشفاء شفاه. حتى حان أجله، وخان أمله وبان عنه حلى حاله، وبان عطله.
وكانت له عندي يد اذكرها وأشكرها، وعارفة أعرفها ولا أنكرها. وذلك أنني في ذي القعدة سنة ثمانين كنت متوجها في خدمة السلطان، وفي صحبته، متوليا للإنشاء منفردا بمرتبته. فلما وصلنا إلى بعلبك انقطعت عنه بها لمرض عرض، وشكا جوهري العرض. وانتهى إليه بدمشق ما ألم بي من الألم، فكره. من خبر السقم. وركب ووصل في يومه حتى أدركني، ومرضني وما تركني. وداواني حتى أبللت، وأزال الله انحراف مزاجي بطبه فاعتدلت. وصحبني إلى دمشق وسبق إلى أوليائي بالبشرى، وشكرت الله على النعمى. وكذلك كان يطلب مرضاتي، في جميع مرضاتي. فلما مرض الطبيب لم ينجح في مرضه الطب، وتوفاه الرب.
وفي آخر هذه السنة؛ توفي الفقيه العالم الزاهد نجم الدين الخبوشاني بمصر وهو الذي بنى المدرسة عند ضريح الإمام الشافعي رضوان الله عليه، وأحيا شعار التوحيد، وبنى أمره على التشديد والتسديد، وحفظ شمل الشافعية من التبديد. وكان السلطان مجيبا له إلى كل ما يستدعيه، ويقضي له من الحوائج ما يقتضيه. ووقف على المدرسة التي بناها وقوفا، وأعطاه في بنائها ألوفا. فلما توفي طلب المدرسة جماعة من العلماء، فلقوا بالإباء. ثم شفع الملك العادل في صدر الدين على بن حمويه وهو

الصفحة 301