كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس

تراث، ولا لمسكنها أساس ولا لساكنها أثاث. ولأكيدها في كيدها يد، ولا لمكرها في جد مكرها جدد. والسعيد من استعد في معاشه للمعاد، واستكثر مدة مقامه في الدنيا لسفر الآخرة من الأزواد. ومن نظر إليها بعين القلى، وعرف أنها دار البلاء والبلى، وتقوى فيها بالتقوى؛ وجد في الأعراض عن جداواها للفوز يوم العرض بالجدوى.
ولقد كان السلطان السعيد - قدس الله روحه - بحقيقتها عارفا، ولطريقتها عازفا، ولزخرفها عائفا، ومن ملكها آنفا، وعن مالها متعففا. فاشتغل عن الدنيا بالدين، وخصه الله بتأييده في علم اليقين. واقتدى بسنة النبي - صلوات الله عليه - فما زاغ بصره وما طغى، (ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى). ووقف
حياته على إحياء معالم الهدى، والإعلان بشعار التقى. وإعلاء منار الجهاد، وإشاعة سنن العدل والإحسان في البلاد والعباد. وإفاضة سجال الفضل والأفضال، حتى كفل جوده بفيض الأرزاق ووفى بنجح الآمال.
وأخلص لله عمله، ولا ملك ملكا ولا تمول إلا في سبيل الله أنفقه وبذله. وكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان لله كان الله له)، فلا جرم أذل الله له الملوك الأعزة، ووهب لأعطاف الدولة للتباهي بملكه الهزة. وملكه الأقاليم والأمصار، وأجرى بأقداره الأقدار، فأزال عن مشارع الشريعة الأكدار. وعطل البدعة بمصر واليمن والشام، وقمع أعداء الإسلام.
ومد الله في عمره حتى بلغ المراد، وفتح البلاد، ووفى في حق الجهاد؛ الجد والاجتهاد. وقدر على ما أعجز عنه الملوك، ونهج في نصرة الدين نهجا أعوز من قبله فيه السلوك. وأخرج الفرنج عن الساحل وأبادها، وملك عليها ديارها وبلادها. وأوهى على الكفرة معاقد معاقلها، وطال بحقه على باطلها.
وأقصى عن المسجد الأقصى مدنسيه، وأزال عنه أيدي غاصبيه. واصرخ الصخرة المطهرة وطهرها من الأرجاس، وأبعد عنها أجناس الأنجاس. وقهر الكفر وخذله، ونصر الإيمان وأخذ له، وأحيا للكرم كل سنة حسنة.
واستمرت محاسن أيامه سنة بعد سنة. وتعدلت بعذله الجوانح، وتذللت ببأسه الجوامح. ودانت ودنت له الممالك القاصية، وأذعنت إذ عنت لحكمه الأماني العاصية. وملكت القلوب والقبول مهابته ومحبته، وعمت الخواص والعوام عارفته وعاطفته. ونفذت في الشرق والغر بمراسمه، وقامت بالحمد والشكر مواسمه، ووفت بأمل الداني والقاصي، والطائع والعاصي مكارمه.
وأسعده الله وأمهله، حتى حقق في ذويه أمله، وولى في كل إقليم من يعمل لله في العدل والإحسان عمله. ثم توفاه حميد الأثر، كريم الورد والصدر، ظافر الرجاء
رائج الظفر. صالح العمل، ناجح الأمل. طاهر الفطرة، ظاهر النصرة. كاسيا من الفخار، عاريا من العار. مرتديا بثوب الثواب، مرتويا

الصفحة 336