كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس

وأنا أرخت بهجرة ثانية تشهد للهجرة الأولى بأن أمدها بالقيامة معذوق، وبأن موعدها الموعد الصحيح غير المدفوع والصريح غير الممذوق، وهذه الهجرة هي هجرة الإسلام إلى البيت المقدس، وقائمها السلطان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب. وعلى عامها يحسن أن يبني التاريخ وينسق، وتسفر عن أهلتها دآدئ المداد وتنشق، وهي وأن كانت هجرة الإسلام إلى القدس ثانية؛ فقد كان انثنى عن وطنه منها لما ثنته يد الكفر ثانية.
وهذه الهجرة أبقى الهجرتين، وهذه الكرة بقوة الله أبقى الكرتين. فإن العرب كانت إذا تناهت في وصف الرجل بالقوة قالت (كأنه كسر ثم جبر). والحق أن نقول: إن أطول الحياتين حياة المرء إذا مات ثم نشر. والعيان يشهد أن أمنع السوءين ما عمر بعد أن ثغر، والفرق بين فتوح الشام في هذا العصر وبين فتوحه في أول الأمر فرق يتبين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
فإن الشام فتح أول والعهد بالرسول صلى الله عليه وسلم غير بعيد، والوحي ما كاد يتعطل في طريقه من السماء إلى الأرض بربد، والعيون التي شاهدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسل سيوفها من أجفانها، والقلوب التي شهدت مواقف معجزاته أوثق بخبره في الفتح منها بعيانها. ورسل عالم الغيب إلى عالم الشهادة بالآيات المؤتلفة مختلفة، ونجدات السماء إلى الأرض متصلة بالملائكة منزلة ومسومة ومردفة.
وقد أخبرهم سيدنا وسيدهم أن الأرض زويت له مشارقها ومغاربها. وأنه سيبلغ ملك أمته المثوبة المرحومة ما ضمت عليه جوانبها. والروم حينئذ بغاث ما استتر، والفرس يومئذ رخم ما استبصر، والحديد ما تنوعت اشكاله الرائعة، ولا طبعت سيوفه هذه القاطعة، ولا نسجت ثيابه هذه المانعة. والبروج لا تعرف إلا مشيدة لا
مجلدة، والمنجنيقات لا يتوثب ما يتوثب اليوم من خشبها المسندة. والأقران لا تتراجم بالنيران المذكاة، والاسوار لا تتناطح بالكباش المشلاة.
وبصائر السلف الصالح رضوان الله عليهم يقاتل بها لو كانوا عزلا، والواحد منهم يسوق العشرة كما يساقون إلى الموقف حفاة غرلا، وكانوا أحرص على الموت منا على البقاء، وكان شوقهم إلى لقاء الله باعثهم على لقاء الأعداء بذلك اللقاء.
والشام الآن قد فتح حيث الإسلام قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، وهريق شبابه، واستشن أديمه، وقد عاد غريبا كما بدأ غريبا، وقد طلع شرف الستمائة وهي للملك المعترك، وكثرت معاثره بما نصب الشرك من الشرك، وأخلق الجديدان ثوبه وكان القشيب، وذوي غصنه وكان الرطيب، ونصلت كفه وكانت الحضيب.
وطال الأمد على القلوب فقست، ورانت الفتن على البصائر فطمست. وعرض هذا الأدنى قد أعمى وأصم حبه، ومتاع هذه الحياة القليل قد شغل عن الحظ الجزيل في

الصفحة 37