كتاب جامع الأصول (اسم الجزء: 1)

الكتاب الثالث: من حرف الباء في البخل وذم المال
449 - (خ م) الأحنف بن قيس - رضي الله عنه (1) - قال: قَدِمْتُ المدينة، فبينا أنا في حَلْقةٍ فيها مَلأُ من قُريش، إذْ جاء رجُلٌ أخْشَنُ الثياب، أخشنُ الجسَدِ، أخشنُ الوجه (2) ، فقام عليهم، فقال: بَشِّرِ الكانِزينَ برَضْفٍ يُحْمَى عليه، في نار جهنم، فيوضَعُ على حَلَمةِ (3) ثَدْي أحَدِهِم حتى يَخْرُجَ من نُغْضِ كَتِفِهِ، ويُوضَعُ على نُغْضِ كَتِفِهِ حتى يخرجَ من حَلَمة ثديه، يَتَزَلْزَلُ (4) ، قال: فوضع القومُ رؤُوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدْبَرَ، فاتَّبعتُه، حتى جلس إلى ساريةٍ، فقلتُ: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلتَ -[605]- لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا، إنَّ خَليلي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - دعاني فأجبتُه، فقال: «أتَرى أُحُدًا؟» فنظرتُ ما عليَّ من الشَّمْسِ، وأنا أظُنُّ أنَّهُ يَبْعَثُني في حاجةٍ له، فقلت: أراه، فقال: «ما يَسُرُّني أن لي مثله ذَهبًا أُنُفِقه كُلَّه، إلا ثلاثة دنانير، ثم هؤلاء يجمعون الدنيا، لا يعقِلُون شيئًا» قال: قلت: ما لك ولإخوانك من قريش لا تَعْتَرِيهِم وتُصيبُ منهم؟ قال: «لا، ورَبِّكَ، لا أسألُهم عن دُنيا (5) ، ولا أستفيهم عن دِين، حتى ألْحَقَ بالله ورسوله» . هذا لفظ مسلم، وهو عند البخاري بمعناه.
وفي رواية: أن الأحنف قال: كنت في نَفَر من قريش، فمرَّ أبو ذَرٍّ وهو يقول: بَشِّر الكانزين بكَيٍّ في ظُهُورهم، يخرُجُ من جُنوبهم. وبَكَيٍّ من قِبَلِ أقفائهم يخرج من جِبَاههم، ثم تنحَّى، فقعد، فقلتُ: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. قال: فقمتُ إليه. فقلت: ما شَيءٌ سَمِعْتُك تقول قُبَيْلُ؟ قال: ما قلتُ إلا شيئًا سمعتُهُ من نبِيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، قال: قُلتُ: ما تَقُولُ في هذا العطاء؟ قال: خُذه، فإن فيه اليوم مَعونةً، فإذا كان ثمنًا لدِينك فدعْهُ.
وفي أخرى بعض هذا المعنى قال: كنتُ أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ينظُرُ إلى أُحُدٍ، فقال: ما أُحِبُّ أن يكون لي ذهبًا تُمسِي عليَّ ثالثةٌ وعندي منه شَيءٌ.
وفي رواية: وعندي منه دينار، إلا دينارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، إلا أن -[606]- أقولَ به في عباد الله، هكذا، حَثَا بين يَديه، وهكذا عن يمينه، وهكذا عن شماله (6) .
Sالكنَّازين: الكنَّازون: جمع كناز: وهو الذي يكنز الذهب والفضة: أي يجعلهما كنزًا، والكنز: المال المدفون.
بِرَضْفٍ: الرَّضفُ: جمع رضفة. وهي الحجر يحمى ويترك في اللبن ليُحْمى.
حلمة ثديه: حلمة الثدي: هي الحبة على رأسه.
نغض الكتف: غضروفه.
تعتريهم: عراه واعتراه: إذا قصده يطلب رفده وصلته.
أرصده: رصدت فلانًا: ترقبته، وأرصدت له: أعددت له.
__________
(1) الأحنف: لقب له لحنف كان برجله. واسمه الضحاك، وقيل: صخر بن قيس بن معاوية التميمي، أبو بحر السعدي، أدرك النبي صلى لله عليه وسلم، ودعا له. كان أحد الحكماء الدهاة العقلاء، توفي بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة مصعب بن الزبير على العراق، فمشى في جنازته، وكان له ولد يدعى بحراً، وبه كان يكنى، وتوفي بحر وانقرض عقبه من الذكور.
(2) في البخاري: خشن الشعر والثياب والهيئة.
(3) قال النووي: فيه جواز استعمال " الثدي " في الرجل، وهو الصحيح، ومن أهل اللغة من أنكره، وقال: لا يقال " ثدي " إلا للمرأة، ويقال: في الرجل " ثندوة " وقد سبق بيان هذا مبسوطاً في كتاب الإيمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه بسيفه، فجعل ذبابه بين ثدييه، وسبق أن الثدي يذكر ويؤنث.
(4) يضطرب ويتحرك وهو للرضف، أي: يتحرك من نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه.
(5) قال النووي: بحذف عن، وهو الأجود، أي لا أسألهم شيئاً من متاعها.
(6) البخاري 3/218 في الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز، وفي الاستقراض، باب أداء الديون، وفي بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، وفي الاستئذان، باب من أجاب لبيك وسعديك، وفي الرقاق، باب المكثرون هم المقلون، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً " وأخرجه مسلم رقم (992) في الزكاة، باب في الكانزين للأموال.
Mصحيح: أخرجه أحمد (5/160) قال: حدثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير. وفي (5/167) قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا أبو الأشهب، قال: حدثنا خليد العصري، قال أبو جري: أين لقيت خليدًا؟ قال: لا أدري. وفي (5/169) قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا أبو نعامة. وفي (5/169) قال: حدثنا أبو كامل. قال: حدثنا حماد. قال: حدثنا أبو نعامة السعدي، والبخاري (2/133) قال: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا الجريري، عن أبي العلاء. (ح) وحدثني إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا عبد الصمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الجريري، قال: حدثنا أبو العلاء بن الشخير، ومسلم (3/76) قال: حدثني زهير ابن حرب، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريري، عن أبي العلاء. وفي (3/77) قال: وحدثنا شيبان بن فروخ، قال: حدثنا أبو الأشهب، قال: حدثنا خليد العصري.
ثلاثتهم - أبو العلاء بن الشيخر يزيد بن عبد الله، وخليد، وأبو نعامة السعدي- عن الأحنف بن قيس، فذكره.

الصفحة 604