كتاب جامع العلوم والحكم ت ماهر الفحل (اسم الجزء: 1)

والإيمانُ بالقدرِ على درجتين (¬1) :
إحداهما: الإيمان بأنَّ الله تعالى سبقَ (¬2) في علمه ما يَعمَلُهُ العبادُ من خَيرٍ
وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ قبلَ خلقهِم وإيجادهم، ومَنْ هُو منهم مِنْ أهلِ الجنَّةِ، ومِنْ أهلِ النَّارِ، وأعدَّ لهُم الثَّوابَ والعقابَ جزاءً لأعمالهم قبل خلقِهم وتكوينهم، وأنَّه
كتبَ ذلك عندَه وأحصاهُ (¬3) ، وأنَّ أعمالَ العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه (¬4) .
والدرجةُ الثانية: أنَّ الله تعالى خلقَ أفعالَ عبادِهِ كلَّها (¬5) مِنَ الكُفر والإيمانِ والطاعةِ والعصيانِ وشاءها منهم، فهذه الدَّرجةُ (¬6) يُثبِتُها أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، ويُنكرها القدريةُ، والدرجةُ الأولى أثبتها كثيرٌ مِنَ القدريَّةِ، ونفاها غُلاتُهم، كمعبدٍ الجُهنيِّ، الذي سُئِل ابنُ عمرَ عنْ مقالتِهِ، وكعمرو بن عُبيدٍ وغيره (¬7) .
وقد قال كثيرٌ من أئمة السّلفِ: ناظرُوا القدريَّةَ بالعلمِ، فإنْ أقرُّوا به
خُصِمُوا، وإنْ جحدوه، فقد كفروا، يريدونَ أنَّ مَنْ (¬8) أنكَرَ العلمَ القديمَ السَّابِقَ بأفعالِ العبادِ، وأنَّ الله قَسمهم قبلَ خلقِهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ، وكتبَ ذلك عندَه في كتابٍ حفيظٍ، فقد كذَّب بالقُرآن، فيكفُرُ بذلك، وإنْ أقرُّوا بذلك، وأنكروا أنَّ الله خلق أفعالَ عباده، وشاءها، وأرادها منهم إرادةً كونيةً قدريةً، فقد خصمُوا؛ لأنَّ ما أقرُّوا به حُجَّةٌ عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاءِ نزاعٌ مشهورٌ بينَ العُلماءِ (¬9) .
وأمّا من أنكرَ العلمَ القديمَ، فنصَّ الشّافعيُّ وأحمدُ على تكفيرِهِ، وكذلك غيرُهما مِنْ
¬_________
(¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية: 442.
(¬2) في (ص) : ((الإيمان بالله أنه سبق)) .
(¬3) زاد بعدها في (ص) : ((وأعد لهم)) .
(¬4) انظر: شرح العقيدة الواسطية: 442 - 443.
(¬5) سقطت من (ص) .
(¬6) زاد بعدها في (ص) : ((الثانية)) .
(¬7) انقسم الناس في باب القدر إلى ثلاثة أقسام:
قسم آمنوا بقدر الله - عز وجل - وغلوا في إثباته، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إنَّ الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار وَلا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبراً عليه، بل إنَّ بعضهم ادعى أنَّ فعل العبد هو فِعل الله، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية.
والقسم الثاني قالوا: إنّ العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم، فقال: إنَّ الله لا يعلم فعل العبد إلاّ إذا فعله، أما قبل فلا يعلم عنه شيئاً، وهؤلاء هم القدرية، مجوس هذه الأمُة.
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إنَّ الله - عز وجل - يجبر الإنسان على فِعله، وليس للإنسان اختيار.
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إنَّ القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا عِلاقة لها في فِعل العَبد، فهو الفاعِل المطلق الاختيار.

القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، قالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين، فنقول: إنّ فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله، ولا يمكن أنْ يكون في ملك الله مالا يشاؤه أبداً، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفِعل الذي يضطر إليه، والفعل الذي يختاره، فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه. شرح العقيدة الواسطية: 364.
(¬8) سقطت من (ص) .
(¬9) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: 271 - 272.

الصفحة 106