كتاب جامع العلوم والحكم ت ماهر الفحل (اسم الجزء: 2)

وقد سبق من حديث أبي الطفيل، عن معاذ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((استحي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك)) (¬1) وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره، وسرِّه وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل -: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (¬2) .
كان بعضُ السَّلف يقولُ لأصحابه: زهَّدنا الله وإيَّاكم في الحرام زهد مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة، فَعَلِم أنَّ الله يراه، فتركه من خشيته، أو كما قال (¬3) .
وقال الشافعي: أعزُّ الأشياء ثلاثة: الجودُ من قِلَّة، والورعُ في خَلوة، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف.
وكتب ابنُ السَّماك الواعظ إلى أخٍ له: أما بعدُ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك، وخفِ الله بقدر قُربه منك، وقُدرته عليك، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره، فليعظم منه حَذَرُك، وليكثر منه وَجَلُكَ والسلام (¬4) .
وقال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء: قُلْ لقومك: ما بالكم تسترون الذنوبَ من خلقي، وتُظهرونها لي، إنْ كنتم ترون أني لا أراكم، فأنتم مشركون بي، وإنْ كنتم تَرَونَ أني أراكم (¬5) فلم جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه
¬_________
(¬1) أخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (1972) وقال: ((لا نعلمه بهذا اللفظ إلا عن معاذ)) .
(¬2) النساء: 1.
(¬3) أخرجه: الدينوري في " المجالسة " (2078) و (2376) ، وهو قول بكر بن عبد الله
المزني.
(¬4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/206.
(¬5) من قوله: ((فأنتم مشركون بي ... )) إلى هنا سقط من (ص) .

الصفحة 478