كتاب جدد حياتك

والمحاكاة، وذوبان الشخصية، وتمثيل الأكابر، علل لا تذم فى مجال قدر ما تذم فى المجال الدينى، حيث لا يبلغ أحد درجة التقوى إلا إذا استقامت خلائقه وطابت سجاياه.
وكل تظاهر- مع فقدان هذا الأساس- لا يزيد المرء إلا مسخاً.
من بضع سنين سمعت غلاماً فى كلية الحقوق- اشتغل بعد فى الصحافة- يخطب جمعاً كبيرا من الناس، ويتناول موضوعا أشبه بوحدة الوجود، أو الفناء فى الله، أو لا أدرى بالضبط، من هذه الموضوعات التى تكلم فيها الصوفية بعد دراسات ومجاهدات مرة، ولم ينتهوا فيها إلى حدود يقرها الإسلام الحق.
وسمعت الغلام الخطيب يتمثل بقول الشاعر الصوفى فى مناجاة الله: ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى يوما حكمت بردتى!! وهذا حكم باطل.
وقد نسمعه من أساتذته الكبار فى ميدان الدعوة والتعبد والمجاهدة المضنية، فلا نسيغه منهم إلا على تجوز وإغماض.
فكيف نقبله من غلام بينه وبين هذه المجاهدات أمد بعيد؟!.
وعادت بى الذاكرة إلى فصول المدرسة الأولى يوم كنا نحفظ قطعا من روائع الشعر والنثر، ونكلف بإلقائها.
لقد حفظ زميل لى يجيد فن الإلقاء خطبة "طارق بن زياد" وهو يحرض رجاله على مهاجمة القوط.
لقد تخيلنا أن السفن المحترقة وراءنا، وأن جيوش الإسبان تجاهنا، وأن ميدان المعركة قد انتقل إلى رحبة المدرسة!!.
ماذا لو زعم التلميذ الماهر أنه "طارق بن زياد" نفسه؟!.
إن المهزلة التى يضحكك افتراضها هى التى وقعت فى مجال التدين نفسه، فقد رأيت الغلمان الذى يحتاجون إلى مراحل هائلة من التهذيب والتنقية يقفزون إلى المرتبة الخرافية لبيت "ابن الفارض ":
ولو خطرت لى فى سواك إرادة … على خاطرى يوما حكمت بردتى
ومن ثم تحول تمثيلهم لبعض الكبار .. إلى كبار فى نظر أنفسهم ونظر الجاهلين!!.
***

الصفحة 125