كتاب جدد حياتك

الإعدام فيه بضرب عنقه، فإنه لم يلتمس العفو ولم يطلب الرحمة، وإنما رجا الجلاد ألا يضرب بسيفه موضعا فى عنقه كان يؤلمه. ومن أمثلة ذلك أيضا ما كتبه "أدميرال بيرد " فى مذكراته عن ليالى الظلام والزمهرير التى قضاها فى القطب الجنوبى، فقد ذكر أن رجاله كانوا منشغلين بتوافه الأمور عن الكوارث المحدقة بهم، وهم يعيشون فى تجو درجة حرارته ثمانون تحت الصفر. قال " بيرد ": كان رجالى يتخاصمون إذا اعتدى أحدهم على المساحة المخصصة لنوم زميل له واستقطع لنفسه منها بضع بوصات، ومن ثم رجل من رجالى كانت نفسه تعاف الطعام فى مواجهة زميل له اعتاد أن يمضغ اللقمة ثمانيا وعشرين مرة قبل أن يزدردها، ولست أعجب لهذا، فإن صغائر كهذه فى معسكر قطبى يسعها أن تسلب عقول أشد الناس دربة على الطاعة والنظام).
ويقص علينا " كارنيجى " حكاية شجرة ضخمة نبتت منذ أربعمائة عام، وتعرضت فى حياتها الطويلة للصواعق أربع عشرة مرة، وهزتها العواصف العاتية طوال أربعة قرون متوالية، ومع ذلك ظلت هذه الشجرة جاثمة فى مكانها كأنها جبل عتيد، ثم حدث أخيرا أن زحفت جيوش الهوام والحشرات على هذه الشجرة الضخمة فما زالت بها تنخرها وتقرضها حتى سوتها بسطح الأرض، وجعلتها أثرا بعد عين. لقد انمحت ماردة الغابة التى لم تهزمها الصواعق ولم تنل منها الأنواء، اختفت من الوجود بفعل هوام هى من الضالة بحيث يستطيع الإنسان أن يسحق إحداها بين سبابته وإبهامه، ألا ترانا مثل هذه الشجرة؟ أو لسنا ننجو من الأعاصير التى تعترض حياتنا ثم نستسلم بعد ذلك للتوافه التى تلتهم حياتنا التهاما.
والأمثلة التى ذكرها المؤلف من واقع الحياة التى يعالج شئونها قد سبق النبى إلى ضرب أمثلة تشبهها مأخوذة من طبيعة البيئة التى عاش العرب فيها، فعن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه، وإن رسول الله ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجىء بالعود، والرجل يجىء بالعود حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، وأنضجوا ما قذفوا فيها ".

الصفحة 61