كتاب غرر البيان من سورة يوسف -عليه السلام- في القرآن

وتَقْدِيرُ جواب {فَلَمَّا} المحذوف أنَّهُم جَعَلوه في غيابة البِئر بَعْد أن نَزَعُوا عَنْهُ قَمِيصَهُ، وكان منهم ما الله به عليم، فكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل، أيضاً القرآن لم يفصِّل في هذا المشهد لأنَّ بيانه من شأنه أن يغري من سقمت سريرته على تعلُّمه وتقليده، وهذا خلاف ما أراد الله تعالى من التَّنفير من هذا الفعل وتشنيعه.
وهكذا تنكَّروا لَهُ، وألقُوهُ في ظُلُماتِ البِئْر بلا جُرْمٍ فَعَلَ، ولا ذَنْبٍ جَنَى، وَلَم يَرْحَمُوا صِغَرَه، ولم يَرَأَفُوا بِضَعْفِهِ، ولكن مَنْ كان اللهُ له أَنِيساً فَكَفى بالله تعالى فهو حسبه، وما أحسن قول القائل:
ولا تَجْزعْ إذا ضَاقَتْ أمُورٌ ... فكم لله مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ

فَقَد أرادَ الله تعالى أن يُطَمْئِنَ نَفْسَ يُوسُفَ ويُسَكِّنَ رَوْعَهُ ويَربِطَ على قلْبِهِ، فأوحى إليه بأنَّهُ سَتحْصُلُ لَهُ النَّجاةُ والخَلاصُ من هَذِهِ المِحْنَةِ، وستكون له سلامَةُ الحَالِ وحُسْنُ المَآلِ، قَال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} أي لَتُخْبِرَنَّ إخْوتَكَ بِفِعْلِهِم مَعَكَ حِينما تَكُونُ عَزِيزاً بِمِصْرَ، وهُم أمَامَكَ {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)} وَقْتَهَا أنَّكَ يُوسُفُ؛ لِعُلوِّ مَكانِكَ، ولطولِ العَهْدِ.
وَقَد تَحَقَّقَ ذَلِكَ حِينَما قال لهم يُوسُفُ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩)} كما تَحقَّقَ عَدَمُ شُعُورِهم بأنَّه يُوسُفُ، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)}.

ظُلْمُ ذوي القُربى
ألا قَاتَلَ اللهُ الحَسَدَ! كَيفَ يُضَيِّعُ أخاً بأيدي إخْوتِهِ، وَيُزَيِّنُ بَغْياً في أعْيُنِ رِجَالٍ نَشَؤُوا في بَيْتِ النُّبوَّةِ، ويُفْجِعُ أباً بأيدي أبنائِهِ.
لقَد جاءت رمْيَةُ يُوسُفَ من عند إخْوتِهِ، ولو جاءت من عند غَيرِهِم لكانتْ

الصفحة 36