كتاب غرر البيان من سورة يوسف -عليه السلام- في القرآن

أقلَّ أثراً، وأخَفَّ ألماً! قال طرفة بن العبد:
وَظُلْمُ ذَوِي القربى أشدُّ مَضَاضةً ... على المرءِ من وَقْعِ الحُسَام المهَنَّدِ (¬١)

لكنَّ اللهَ تعالى يَمْتَحِنُ المُخْلِصين من عِبَادِهِ بألوان الرَّزايا وضروبِ البلايا؛ ليكونوا أقْدَرَ على حَمْلِ الرِّسالةِ وأداء الأمانة، واحْتِمَالِ الأذى في جَنْبِ الله تعالى.
وهكذا أمسَى يُوسُفُ ـ - عليه السلام - ـ في غَيابَةِ البئر، فما عَسى كانت خواطره؟! لعَلَّه كان يَسْألُ نفْسَه كَيفَ سَوَّلَتْ لهم أنْفُسُهُم هذا الأمر؟! وكيف تَطِيبُ لهم أنفسهم أن يتركوه في ظلمات البئر؟! لكن الَّذي لا شكَّ فيه أنَّه إن قَطَعَ الرَّجاء من عودَتِهم، لم يَقْطَع الرَّجاء من رحمة الله تعالى.

عودةُ الأبناء إلى أبيهم يعلوهم البكاء
اللَّيلُ حَالِك، ويَعْقُوب ـ - عليه السلام - ـ في بيتِهِ يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ يُوسُفَ لَحْظةً بلحْظَة، ولكن هوِّن عَلَيْكَ يا نبيَّ الله؛ فَلَنْ تَراهُ إلَّا بَعْدَ سنين عدداً!
قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦)} ... ما أرْخَصَ الدُّمُوعَ إذا كَانتْ دُمُوعَ التَّمَاسِيح! فَعِنْدَ العِشَاء، ولمَّا عَسْعَسَ اللَّيلُ، وخَلَعَ عبَاءَتَهُ السَّوداءَ على الكون، عَادَ الأبناءُ إلى أبيهم يُظْهِرون الحُزْنَ، ويَرْفَعُونَ أصواتَهُم بالبكاءِ. وإنَّما اختاروا العِشاء ليكونُوا أجْرأَ في العِتْمَةِ على الاعْتِذار بالكَذِبِ، وحتَّى لا يتبيَّنَ يعْقُوبُ ـ - عليه السلام - ـ دُمُوعَهُم الكاذِبة.
وقد أخبر الله تعالى عن بكائِهم بالفعل {يَبْكُونَ (١٦)} ولم يخبر بالاسم
---------------
(¬١) الشَّنقيطي " شرح المعلَّقات العشر " (ص ٧٦).

الصفحة 37