كتاب غرر البيان من سورة يوسف -عليه السلام- في القرآن

من التَّصديق، وأمَّا {بِمُؤْمِنٍ} فتحمل معنى التَّصديق وإعطاء الأمن، فهم يطلبون تصديقَهم وزيادة، وهو الأمن؛ فلهذا جَنَحَ إليه ولم يُعاقِبْهم.
أيضاً القرآن لم يقل: وما أنت بمصدِّق لنا ولو كنَّا صادقين، لأنَّه لا يقيم وزناً للتَّنسيق والتَّنميق والتَّجنيس في الألفاظ إذا كان على حساب المعنى.
ومن بديع التَّنكيت وحلوه، قوله تعال: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... (٤٤)} [الإسراء] فقد اختصَّ {تَفْقَهُونَ} بالذِّكر دون (تعلمون) لما في الفقه من زيادة على العلم، ومنه قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ... (٣١)} [الأنعام] فخصَّ {ظُهُورِهِمْ} دون (رؤوسهم) كون الظُّهور أقوى على الحمل، فكنَّى بها سبحانه عن ثقل الأوزار.
ومن شواهد التَّنكيت، قوله: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)} [الحاقة] فاختصَّ {الْوَتِينَ} دون العروق، لأنَّه نياط القلب، وهو عرق متَّصل به إذا انقطع مات الإنسان.

قَمِيصُ الجَفَاء
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أرادوا أنْ يُعَزِّزوا قَوْلَهُم ويُوثِّقوا تَبْرِيرَهم، فَقَدَّمُوا لأبيهِم قَمِيصَ يُوسُفَ ـ - عليه السلام - ـ وعَلَيهِ دَمٌ كَذِبٌ مُفْتَرى، وَوُصِفَ الدَّمُ بالمَصْدَرِ مُبالَغةً، كأنَّ الدَّمَ هو الكَذِبُ عيْنُهُ.
ولكن مَهْمَا دَبَّرَ المُدَبِّرونَ وفَعَل الفاعِلُونَ فلا بُدَّ أنْ يَتْركوا خَلْفَهُم علامَاتٍ وآثاراً تُثْبِتُ أنَّهُم الفاعِلُونَ، فما أَشَدَّ غَفْلَتَهُم! فَقَد جاؤوا بالقَمِيصِ ليَشْهَدَ لَهُم بِصِدْقِهم، فَكَانَ دلِيلاً على كَذِبِهم، فَقَد نَسُوا أن يُمَزِّقوا القَمِيصَ، فلَم يُصَدِّقْهم يَعقُوبُ ـ - عليه السلام - ـ، فأيُّ ذِئْبٍ حَلِيمٍ عاقِلٍ هذا الَّذي يَأكُلُ يُوسُفَ كُلَّهُ دون أن يَشُقَّ

الصفحة 39