كتاب غرر البيان من سورة يوسف -عليه السلام- في القرآن

وَلَيس مِنَ الحسدِ الاغتباط، وَهو أن تتمنى مِنَ الله تعالى أَن يكونَ لكَ مِن الخَيرِ مِثْل غيرِك دُوْنَ زَوَالِ ما عندَه؛ لقول النَّبِيِّ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: " لا تحاسد إِلَّا فِي اثنتين: رَجُلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يتلوه آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، يقول: لَو أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِي هَذا لَفَعلتُ كَما يَفعَلُ، وَرجُلٌ آتاه اللهُ مَالاً يُنفِقُه في حَقِّه، فَيقولُ: لَو أُوتيتُ مِثلَ ما أُوتي هَذَا لَفَعَلْتُ كما يَفْعَل " (¬١)
فمَنْ تَمَنَّى مِنَ الله تَعَالى أنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ الرَّجُلَيْن اللَّذَيْن ذَكرَهُمَا النَّبِيُّ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في حديثِه الشَّريف أعطَاه اللهُ تعالى مِثْلَهما في الْأجْر وَالثَّواب؛ لأنَّ هذا حَسَدٌ مجازيٌّ وهو ما يُعْرَف بالغبطة، وليس حسَداً حقيقياً.
ويفهم من الحديث أنَّ من الغبطة أنْ يتَمَنَّى الإنسان مِثْل النِّعْمَة الَّتِي عَلَى أخيه مِنْ غَيْر زَوَالهَا عَنْه، فَإِنْ كَانَتْ تلك النِّعمة طَاعَة فَهِيَ مُسْتَحَبَّة، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُور الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَة، كما يُفهمُ أنَّه لَا غِبْطَة محمودة إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ ونحوهما.
وقَد أوجِدت الغبطة في الإنسان لِيُنافِسَ غيره من أهل الفضل في جلائل الأعمال، فيكثر الخيرُ، ويزداد النَّفعُ، ولم تُوجَد ليسعى في إزالة الفضل والخير عن أخيه، فهذا من الحسد.
وَلا رَيْبَ أَن الحَسَد أكثر ما يكون بَينَ المشْتَرِكين فِي حال مِن الأَحوَال: كالمُشْتَرِكِينَ فِي صَنْعة، أو تِجَارة، أَو زِرَاعَة، أوحِرْفَة، أَو عِلْم، أَو دِرَاسَة، أَو مَنْصِب، أو رياسَة، أو غِنَى ... وكلَّما ذَاعَ صِيْتُ الإنسان حَسَده مَنْ يُشَارِكه فِي ذَلِكَ الصِّيت، وَكُلَّما ارْتَفَعَ الصِّيتُ، وَحَسُنَ الذِّكْرُ ازْدَادَ الحَسَدُ.
وَإنَّك لَترى الحَاسِد لا يُرِيدُ أنْ يُشارِكَهُ في المجْدِ والرِّفْعَةِ أحدٌ، ولذلكَ تَراه يَسْعَى جاهِداً لإزالةِ الفَضلِ عن المَحْسُودِ ولو بإلحَاقِ الأذيَّةِ بِهِ ... أجارنا اللهُ من
---------------
(¬١) البخاري " صَحِيح البخاري " (م ٤/ج ٨/ص ١٢٩) كتَاب التّمَنّي.

الصفحة 47