كتاب غرر البيان من سورة يوسف -عليه السلام- في القرآن

غَوائِل الحَسَد، وأعَاذَنا من شَرِّه.

مُقارَنة بين سيِّدنا يُوسُفَ ـ - عليه السلام - ـ وَسَيِّدنَا مُحمَّد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فِي مَسْأَلة وُجُودِ الأب وَعَدَمِه
إِذَا عَقَدْت مُقَارنة بين سيِّدِنا يُوسُفَ ـ - عليه السلام - ـ وَسَيِّدنا محمَّد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ تجدُ أنَّ يُوسُفَ لمَّا وُلِدَ وَجَدَ لَهُ أَباً يَحْنُو عَلَيهِ ويُحِيطه بَفَائق الْعِنَاية والرِّعَاية، ومحمَّد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ لمَّا وُلِدَ وَتَلفَّت حَوَاليه لَم يَجِدْ أَباه، وَمَعَ ذَلِكَ مَا أَغْنَتْ حَيَاةُ يَعْقُوب ـ - عليه السلام - ـ عَن يُوسف شَيْئاً، فَقَد انْتُزِعَ يُوسُفُ مِن بين يَدَيهِ، وَجَرَى لَهُ ما جَرَى، وَمَا اسْتَطَاع يَعْقُوب ـ - عليه السلام - ـ أَن يَرُدَّ المقادِيرَ شَيْئاً، ومُحمَّدٌ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ اليَتِيم يسَّرَ اللهُ له مَنْ شَمِلَهُ بِعنَايَتهِ من مَوْلِده حَتَّى وَفَاتهِ، فَالله تَعَالَى يُعْطينا صُورةً أَنَّ حَيَاة الوَالِدَين لا تُغَيِّر مِن مُجْرياتِ الْقَدر شَيْئاً، وَأَنَّ قَضَاءَ الله تَعَالى نَافِذٌ لا يَردُّه أحدٌ.

خُرُوج يُوسُفَ من الجُبِّ
وَبَيْنَما يُوسف فِي الْجبِّ مُحْتَسِباً أَمْرَه إِلى الله تَعَالى، إِذْ جَاءَت رِفْقَةٌ تَسِيرُ لِمصْرَ، وَعِنْد الجُبِّ انْتَدَبوا ساقِياً يَرِدُ لَهُم عَلَى الجُبِّ، وَيَأْتِيهِم بِالماءِ، قَال تَعَالى {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا ... وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} رَمَى الْوَارِدُ دَلْوَه فِي الْجبِّ فَتَعَلَّق يُوسُف بِهَا، فَلمَّا رَآه {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} نَادَى بِفَرَحٍ وَسُرُورٍ الْبُشْرى عَلَى عَادَة الْعَرَبِ كَمَا تُنَادِي الْحَسْرة: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ... (٣٠)} [يس].
ثُمَّ اتَّفَقَ الْوَارِدُ وَأَصْحابُهُ عَلَى إِخْفاء أَمْرِ يُوسُفَ وَبَيعِه بِمِصْرَ مَتَاعاً كَمَا تُبَاعُ الْبِضَاعةُ، قَال تَعَالَى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩)} لَم يَخْفَ عَلَيْهِ تَعَالى أَسْرَارَهم وَمَا عَزَمُوا عَلَيه فِي أَمْرِ يُوسُفَ، وَلَكنَّ حِكْمَةَ الله تَعَالى اقْتَضَت ذَلِك؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)} [الأنفال].

الصفحة 48