كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

قِيلَ لَهُمْ: غَايَةُ هَذَا كُلِّهِ، أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، فَعَدَمُ عِلْمِكُمْ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِكُمْ بِالشَّيْءِ، لَيْسَ عِلْمًا بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
وَكَذَلِكَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا عُدِمَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ الْخَالِقِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الشَّيْءِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الدَّلِيلِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، كَالْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ عَلَى نَقْلِهَا، إِذَا لَمْ يُنْقَلْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ - مَعَ الْعَدَمِ - يُمْكِنُكُمُ النَّفْيُ الْعَامُّ عَنْ غَيْرِ الْمَسِيحِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ كَانَ مُتَّحِدًا بِالْمَسِيحِ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَلَا يُظْهِرُ إِلَّا الْعُبُودِيَّةَ.
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَكَذَا كَانَ مُتَّحِدًا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَكِنْ أَخْفَى نَفْسَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْضَ خَوَاصِّ عِبَادِهِ، أَوْ أَظْهَرَ لِطَائِفَةٍ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا خَبَرُهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُمْكِنْ مَعَ تَصْدِيقِ النَّصَارَى فِيمَا يَدَّعُونَهُ الْجَزْمُ بِكَذِبِ هَؤُلَاءِ، بَلْ مَنْ جَوَّزَ قَوْلَ النَّصَارَى، جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْسَامِ، فَيَجْعَلُ كَثِيرًا مِنَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ هِيَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، إِذْ كَانَتْ لَيْسَ هُوَ مُتَّحِدًا بِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

الصفحة 460