كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (اسم الجزء: 6)

وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ صَلَاحِ النَّفْسِ وَكَمَالِهَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا تَنْجُو بِهِ مِنَ الشَّقَاءِ، فَضْلًا عَمَّا تَسْعَدُ بِهِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَرِسْطُو مُعَلِّمَهُمُ الْأَوَّلَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ إِنَّمَا أَثْبَتُوا الْعِلَّةَ الْأُولَى بِالْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ، فَقَالُوا: الْحَرَكَةُ الدَّوْرِيَّةُ حَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ، فَقِوَامُهُ بِحَرَكَتِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَفَسَادُهُ بِعَدَمِهَا، وَقِوَامُ حَرَكَتِهِ بِمَا يَتَحَرَّكُ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْفَاعِلَ بِالِاخْتِيَارِ إِنَّمَا قِوَامُهُ بِعِلَّتِهِ الْغَائِيَّةِ الَّتِي يَتَحَرَّكُ لِأَجْلِهَا، وَغَايَتِهِ الَّتِي يَتَحَرَّكُ لِأَجْلِهَا، هُوَ الْعِلَّةُ الْأُولَى فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا. فَجَعَلُوا قِوَامَ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَشَبِّهٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَرِّكَ بِاخْتِيَارِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَادٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ تَطْلُبُ مُرَادًا مَحْبُوبًا لِنَفْسِهَا، وَتَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنَ اسْتِلْزَامِهَا مُشَبَّهًا بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ بِإِرَادَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَادٍ مَحْبُوبٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ، وَالْمُرَادُ يَكُونُ إِمَّا مُرَادًا لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ إِنَّمَا يُرَادُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ بَدَلًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُرَادًا لِنَفْسِهِ، أَوْ مُنْتَهًى إِلَى مُرَادٍ لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي الْعِلَلِ الْغَائِبَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَبُطْلَانِ التَّسَلْسُلِ فِي الْعِلَلِ الْفَاعِلِيَّةِ بِصَرِيحِ

الصفحة 37