كتاب شعب الإيمان (اسم الجزء: 6)

ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ رَسُولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ، وَنَزَلَ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] فَهَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، فَنَزَلَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ، فَنَزَلَ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وَقَدْ قُرِئَ يُقَاتِلُونَ، فَرَجَعَ إِلَى مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الْجِهَادَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَضَ الْهِجْرَةَ عَلَى الْمُتَخَلِّفِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]. {وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 244] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَلْزَمَ الْجِهَادَ إِلْزَامًا لَا يَخْرَجَ مِنْهُ، فَقَالَ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111]، وَالْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّهُ لَمَّا فَرَضَ الْجِهَادَ صَارَ قَبُولُهُ وَالطَّاعَةُ لَهُ فيه مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَانَ فَرْضُهُ بِشَرْطٍ: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ أَوْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَمَنْ قَبِلَه عَلَى هَذَا كَانَ بَاذِلًا نَفْسَهُ، وَذَلِكَ فِي صُورَةِ الْمُبَايَعَةِ، فَكَانُوا بَائِعِينَ، وَاللهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُشْتَرِيًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وكل ذَلِكَ بَايِعٌ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مُكَلَّفٌ أَنْ تُسَلَّمَ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَلُزُومُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

الصفحة 77