كتاب الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي

كَيْفَ يكون الدَّاء دَوَاء والسقم شِفَاء؟ فَإِن هَذَا قَدْ يُوجد معنى وَيسْتَعْمل لفظا، وَقد ظهر لعامة النّاس وخاصتهم أنَّ الدَّاء الْمُسَمّى خمار الْعَارِض عَن الشَّرَاب الْمُسكر يشفى مِنْهُ شرب شَيْءٍ ممّا تولد الْخمار عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وصَرْعَةِ مخمورٍ رفعت بقرقفٍ ... وَقد صرعتَني قَبْلَ ذَلِكَ قرقفُ
فَقَامَ يداوي صرعتي متعطفًا ... وَكنت عَلَيْهِ قبلهَا أتعطف
يموتُ ويحيا تَارَة بَعْدَ تَارَة ... وتُتلفنا هَذِي المدام وتخلف
إِذَا مَا تسلقنا من الكأس سلوة ... تقاضى الْكرَى مِنْهَا الَّذِي نتسلف
وَقَالَ آخر:
تداويتُ من لَيْلَى بليلي من الْهوى ... كَمَا يَتَدَاوى شاربُ الخمرِ بالخَمْرِ
وَقَالَ أَبُو نواس:
دع عَنْكَ لومي فَإِن اللومِ إغراءُ ... ودَاوِني بِالَّتِي كانتْ هِيَ الدَّاء
أَخذه من قَول الْأَعْشَى:
وكأسٍ شربتُ عَلَى لَذّةٍ ... وَأُخْرَى تداويتُ مِنْهَا بهَا
لكَي يعلمَ الناسُ أَنِّي امرؤٌ ... أتيتُ الْمَعيشَة من بَابهَا
وَقَالَ جرير:
يَرْمِين من خلَلِ السُّتور بأعينٍ ... فِيهَا السِّقام وبُرْءُ كلِّ سقيمِ
وَكنت فِي الحداثة أنشأت كلمة مسمطة عَلَى نَحْو قصيدة مدرك الشَّيْبَانيّ فِي عَمْرو النَّصْرَانِي فَكَانَ ممّا ذكرتُه فِي كلمتي هَذِهِ عِنْدَ صفة عين إِنْسَان نَعته ونسبتُ الْكَلِمَة بِهِ:
سُقم أَوَى أحسن عين تطرفُ ... تَقْوى بِهِ والقلوبُ تُضْعِفُ
كالسم فِي الأفعى تَقِي وتحتفُ ... تَحْيا بِهِ وبالنفوس تتْلف
ثُمَّ قلت:
دواءُ من أقصده بسُقمه ... تكراره نَحْو مَرَامي سهمهِ
كالأفعوان يُشْتفى من سُمِّهِ ... بشُرب درياقِ كربهِ لَحْمِهِ
وَقلت أَيْضا من كَلمته:
وشفائي بسقم مُقْلة ظبيٍ ... قَدَّ قلبِي مِنْهُ بِأَحْسَن قَدِّ
سُقمها لي شفاءُ دائِي إِذا ... جَادَتْ وداءٌ إِذَا تصدَّتْ لصدِّ
وَأَنا أسْتَغْفر اللَّه من مساكنة مَا يشغل عَنْ عِبَادَته، وَمِمَّا يضارع مَا وَصفنَا فِي هَذَا الْفَصْل من وَجه، قَول ابْن الرُّومِي:
عَيْني لعينك تُبْصِرُ مقتلُ ... لكنّ عينكَ سَهْمُ حتفٍ مُرْسَلُ
وَمن العجائِبِ أنَّ مَعْنىً وَاحِدًا ... هُوَ مِنْك سهمٌ وَهُوَ مِنِّي مقتل

الصفحة 30