كتاب الجزائر الثائرة

أليس فرعا من الدوحة المباركة الراسية العررق، والمتهدلة الأغصان، والمتفيئة الظلال، ومن سلالة الأشراف من بني ورتلان؟
أليس ما قوم لسانه وأطلق لهاته، وقدح في حنايا ضلوعه حب العلم والمعرفة هو كتاب الله؟ ألم يكن أول تعلمه على فقهاء المنطقة الذين أدركوا جوهره الخالص، وعنصره الحي فغرسوا فيه أخلاق النبل، وصفات الكمال؟
كان الإمام المصلح الشيخ عبد الحميد يقدر في ابنه الروحي مواهبه الفكرية وإخلاصه في جهاده التربوي والإصلاحي، ويرتاح لنجاحه الباهر الذي يشكر كلما يذكر، وكانت له في الجزائر سمعته الواسعة، ومكانته البارزة، مما يدعو إلى البقاء في الجزائر ومواصلة الكفاح بجانب أستاذه وإخوانه العلماء، ولكنه رأى - وهو الذي أعده القدر لحياة كلها صراع وجهاد ونصب وسهر، وتنقلات مضيئة، وأسفار مكدية من أجل تخفيف متاعب الناس وآلامهم وإضاءة جوانب الحياة أمامهم - رأى أن يغادر الجزائر إلى فرنسا ويلتحق بجاليات الجزائر الذين (استهوتهم أرض فرنسا وربوعها الجميلة ومدينتها اللامعة، فأشفق عليهم أن يبتعدوا عن وطنهم وأجسامهم وأرواحهم معا). ويصبحوا فيها مرتعا عريض الكلأ تخور فيه السوائم الغربية بفكرها وتمسيحها وتمسيخها، فشد الرحيل إلى فرنسا في منتصف سنة 1936 مزود بنصائح الإمام وتوجيهاته، مسلحا بعقيدته وإيمانه تاركا أهله ووطنه.
ورغم ما تمتاز به الحياة في فرنسا من سحر وجمال، وما تنفتح عليه العين صباح مساء من مفاتن الدنيا ومغرياتها التي تجلب الألباب وتخطف الأبصار فإن الأستاذ الفضيل لم يجعل نصب عينيه سوى رسالته، ولم يكن يشغله أبناء وطنه الذين أمسوا كالأيتام في مأدبة اللئام، فلم يفكر في جولة أو راحة أو استجمام، هو الذي ظل في الجزائر مدة طويلة لا يعرف الراحة، وما أن وقف على أوضاعهم المختلفة

الصفحة 23