كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 3)

الْأَوَاخِرَ " فَعَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَاتِ قَدْ قَرَّرَ لَهَا الشَّرْعُ أَسْبَابًا رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ، أَوْ عَارِضَةً كَالزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ سَبَبٌ رَاتِبٌ، وَلَا عَارِضٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بن إبراهيم بن الحرث التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فلما كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر " قال " وأريت هذه الليلة ثم أنسيتها " قال " ورأيتني أسجد في صبيحتا في ماءٍ وطينٍ فالتمسوها فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وترٍ " فمطرت السماء من تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد قال أبو سعيد فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انصرف علينا وعلى جبهته وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وعشرين (قال الشافعي) وحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدل على أنها في العشر الأواخر والذي يشبه أن يكون فيه ليلة إحدى أو ثلاث وعشرين ولا أحب ترك طلبها فيها كلها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِشَرَفِهَا، وَأَنَّهَا تُوَافِقُ عَشْرَ الِاعْتِكَافِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ فِيهَا أُمُورَ السَّنَةِ أَيْ يَقْضِيهَا:
وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا عَظِيمَةُ الْقَدْرِ جَلِيلَةُ الْخَطَرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ لَهُ قَدْرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ) {القدر: 1) يَعْنِي الْقُرْآنَ جُمْلَةً أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ يَنْزِلُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) {الواقعة: 75) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر: 3) ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عُمُرِ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَمَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، ثُمَّ قَالَ: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) {القدر: 4) وَفِي الرُّوحِ تَأْوِيلَانِ:

الصفحة 482