كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 10)

قوله: {فإن طلقها فلا جناح عليهما فيما افتدت به} يُرِيدُ الْخُلْعَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ خُلْعِهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ. وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ} [البقرة: 229] إلى قوله: {فإن طلقها فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يُرِيدُ الْخُلْعَ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهَا مَا بَقِيَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ كالرجعية، ولأن الطلاق كالعتق لسراينهما، وَجَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِمَا، وَالْخُلْعَ كَالْكِتَابَةِ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهِمَا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أُعْتِقَ صَحَّ عِتْقُهُ لِبَقَايَا أَحْكَامِ الْمِلْكِ، وَجَبَ إِذَا طُلِّقَتِ الْمُخْتَلِعَةُ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُهَا لِبَقَايَا أَحْكَامِ النِّكَاحِ.
وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ كَالْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا لِتَحْرِيمِهَا، وَبَقَايَا أَحْكَامِ نِكَاحِهَا، فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْمُخْتَلِعَةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَجَعَلَ التَّسْرِيحَ لِمَنْ لَهُ الْإِمْسَاكُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِ الْمُخْتَلِعَةِ إِمْسَاكُهَا، لَمْ يَكُنْ بِهِ تَسْرِيحُهَا وَطَلَاقُهَا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ نِكَاحًا وَلَمْ يُسْقِطْ رَجْعَةً كَانَ مُطَّرِحًا كَالْمُطَلَّقَةِ بعدة الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَجْنَبِيَّةُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ، وَالْمُخْتَلِعَةُ يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقُ السُّكْنَى وَلُحُوقُ النَّسَبِ فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ وَلُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ دُونَ النِّكَاحِ.
أَلَا تَرَى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَعْتَدَّ، وَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِبَ نِكَاحِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا هِيَ طَالِقٌ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلُحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ العدة ولحوق النسب من أحكام الوطء دون النِّكَاحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ النكاح دون الوطء.

الصفحة 17