كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 10)

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عمر بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (مَنْ طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا طَلَاقَ لَهُ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَنْ لَا يَمْلِكُ فَلَا عِتْقَ لَهُ، وَمَنْ نَذَرَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا نَذْرَ لَهُ) .
وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَكَانَ فِيمَا عَهِدَ إليه أن لا يطلق الرجل ما لم يتزوج ولا يعيق مَا لَا يَمْلِكُ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) مَحْمُولٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدٍ، لِأَنَّ اسْمَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ، حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ الطَّلَاقَ طَلَاقًا لَعَتَقَ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) أَيْ لَا طَلَاقَ يَقَعُ قَبْلَ نِكَاحٍ.
قَالُوا: وَنَحْنُ نُوقِعُهُ بَعْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ عَقَدَهُ قَبْلَ النِّكَاحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا كَانَ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا نِكَاحَ عَلَيْهَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِيمَا هُوَ مَعْقُولٌ إِلَى بَيَانٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الرَّسُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا طَلَاقَ وَاقِعٌ وَلَا مَعْقُودٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهَا.
أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) وَاقِعًا وَلَا مَعْقُودًا، لَصَحَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ مَحْمُولًا عَلَى مُحْتَمَلَيْهِ مَعًا دُونَ أَحَدِهِمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَيَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ فقَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ هِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ: طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ ابْنِي خَطَبَ امْرَأَةً، وَإِنَّ ابْنِي قَالَ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرِيهِ فَلْيَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ.
فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْحَالِفِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْوُقُوعَ دُونَ الْعَقْدِ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْعُرْفِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ فِي النِّكَاحِ.
أَصْلُهُ إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ مُوَافِقَةً لَنَا فَكَذَلِكَ فِيمَا خَالَفَنَا.

الصفحة 27