كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 13)

ويصيرون بهذا الأمان أمنيين مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ، لِعُمُومِهِ وَصِحَّتِهِ، مَا لَمْ يُقَاتِلُونَا، فَإِنْ قَاتَلُونَا صَارُوا كَأَهْلِ الْعَهْدِ الْمُتَقَدِّمِ إِذَا قَاتَلُوا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَإِنْ كَانَ عَقْدُ الْأَمَانِ لَهُمْ مَشْرُوطًا بِقِتَالِهِمْ مَعَهُمْ، كَانَ هَذَا الْأَمَانُ بَاطِلًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ عَقْدُ الْأَمَانِ لَهُمْ بِقِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى قِتَالِنَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وَنَأْمَنَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وَلَا نَأْمَنَهُمْ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَمَانُ بِمَا ذَكَرْنَا سَقَطَ حُكْمُهُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَلَزِمَ حُكْمُهُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ بَطَلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَجَازَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَسَبْيُهُمْ وَقَتْلُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، كَمَا يُقْتَلُونَ وَيُقَاتَلُونَ فِي جِهَادِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ.
وَلَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ قَتْلُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ وَإِنْ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ أَمَانِهِمْ لِلُزُومِهِ فِي الْخُصُوصِ وَإِنْ بَطَلَ فِي العموم.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَوْ كَانَ لَهُمْ أَمَانٌ فَقَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ كَانَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا كان لطائفة من المشركين عهداً بِأَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ، فَاسْتَعَانَ بِهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا، كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ إِذَا قَاتَلُونَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] .
فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بِنَقْضِهِ إِذَا خِفْنَاهُمْ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ بِقِتَالِهِمْ.
وَلِأَنَّ إِعْطَاءَ الْعَهْدِ لَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَتِنَا لَا لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَأَلُوا الْعَهْدَ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ حَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعَاهِدَهُمْ، فَإِذَا قَاتَلُوا زَالَتِ الْمَصْلَحَةُ فَبَطَلَ الْعَهْدُ عُمُومًا، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ خُصُوصًا.
وَجَازَ لَنَا قَتْلُهُمْ وَسَبْيُهُمْ، وَقِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ.
فَإِنْ أَسْلَمُوا: لَمْ يُؤْخَذُوا بِمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَبِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ قِتَالَنَا مَعَهُمْ مُبْطِلٌ لِعَهْدِنَا مَعَكُمْ.
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ فِي بَقَاءِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ، لِأَنَّ الْأَمَانَ هُوَ الْكَفُّ وَالْمُوَادَعَةُ، فَضَعُفَ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْجَهَالَةِ.

الصفحة 125