كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 13)

أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهَا وَيَدْفَعَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
وَقَوْلِهِ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مِنَ الْجُوعِ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِأَكْلِ مَا وَجَدَهُ مِنَ الطَّعَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِتَالُ وَالدَّفْعُ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِسْلَامِ، طَلَبًا لِثَوَابِ الشَّهَادَةِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ إليك يدي لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] .
وَلِأَنَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ مَنَعَ عَنْهُ عَبِيدَهُ، فَكَفَّهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ.
وَأَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُهُ عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ فَقَالَ: لَا، إِلَّا الدَّيْنُ، فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ، ورسول الله يَرَاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ.
فَأَمَّا الْمُضْطَرُّ جُوعًا إِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ يَخَافُ التَّلَفَ.
فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلطَّعَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى ثَمَنِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَنْ أُرِيدَ دَمُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ شَهَادَةً يَرْجُو بِهَا الثَّوَابَ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ شَهَادَةً يُثَابُ عَلَيْهَا.
وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ثَمَنِهِ فَفِي وُجُوبِ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ. وَهَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَيْتَةً كَانَ فِي وُجُوبِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَغْلِيبًا لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِتَنْزِيهِ نَفْسِهِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ مِنَ الْتِزَامِ ذَنْبٍ لَا يعذر عليه.

(مسألة)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَالْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَمَانِ كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ حُرٍّ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لِأَهْلِ بَغْيٍ أَوْ حَرْبٍ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
وَأَصْلُ هَذَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ) .

الصفحة 141