كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 13)

أَلِفَ الْإِسْلَامَ، وَتَوْبَةُ الْمَوْلُودِ عَلَى الْكُفْرِ أَضْعَفُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَلِفَ الْكُفْرَ، فَلَمَّا فَسَدَ هَذَا كَانَ عَكْسُهُ أَفْسَدَ.
وَدَلَائِلُ هَذَا تَأْتِي فِيمَا يَلِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ مِمَّا يُسِرُّهُ أَهْلُهُ كَالزَّنْدَقَةِ: قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، تَسْوِيَةً بَيْنَ رِدَّةِ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَبَيْنَ الرِّدَّةِ إِلَى كُلِّ كُفْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
فَفَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْكُفْرِ وَبَعْضِهِ فِي الرِّدَّةِ، كَمَا فَرَّقَ فِي الْأَوَّلِ - إِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ - بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِهِمْ فِي الرِّدَّةِ.
وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُ: مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكُفْرَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: كَقَوْلِنَا.
وَالْأُخْرَى: كَقَوْلِ مَالِكٍ.
احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] .
وَلِأَنَّ الزِّنْدِيقَ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَهُوَ بَعْدَ التَّوْبَةِ هَكَذَا، فَصَارَ كَمَا قَبْلَهَا فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ التَّوْبَةُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحِرَابَةِ لِجَمْعِهَا بَيْنَ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَمَّا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ أَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهَا الْقَتْلَ، كَمَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ اسْتِدْفَاعَ الْقَتْلِ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ تَوْبَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهَا فِي دَفْعِ الْقَتْلِ بِهَا، كَمَا حُمِلَتْ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهَا.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] .

الصفحة 152