كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 13)

وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ قَبِلَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ظَاهِرَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِنْ تَحَقَّقَ بَاطِنُ كُفْرِهِمْ، بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ سَرَائِرِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1 - 2] . وَقُرِئَ: إِيمَانَهُمْ - بِكَسْرِ [الْهَمْزَةِ] مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْيَمِينِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] .
فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم الَّتِي تَحَقَّقَ بِهَا كُفْرُهُمْ، وَاعْتَبَرَ مَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تَحَقَقَ فِيهِ كَذِبُهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ وَدَاخِلِينَ فِي حُكْمِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَفَّ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَوْ عَرَفَهُمْ لَمَا كَفَّ عَنْهُمْ.
قِيلَ: قَدْ كَانُوا أَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَوْا، هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي ابن سَلُولَ وَهُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، قَدْ تَظَاهَرَ بِالنِّفَاقِ وَأَبْدَى مُعْتَقَدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] .
وَقَوْلُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] .
فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا مِنَ الْغُزَاةِ جَرَّدَ ابْنُهُ عَلَيْهِ سَيْفَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقُلْ إِنَّكَ الْأَذَلُّ وَرَسُولُ اللَّهِ الْأَعَزُّ، لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي هَذَا، فَقَالَهَا.
وَلِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالزَّنْدَقَةِ أَقْوَى مِنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهَا كَانَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ فِي قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا.
وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ التَّوْبَةِ فِي جَهْرِ الْكُفْرِ وَسِرِّهِ، لَكَانَ قَبُولُ تَوْبَةِ الْمُسَاتِرِ أَوْلَى مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُجَاهِرِ، لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مُعْتَقَدِهِ، وَالِاسْتِسْرَارِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مُعْتَقَدِهِ، فَلَمَّا بَطُلَ هَذَا كَانَ عِلَّتُهُ أَبْطَلَ، وَلِأَنَّهَا تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرٍ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ كَالْجَهْرِ.
فَأَمَّا الجواب عن قوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] .
فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ فِيهَا مَا يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا، لِأَنَّ مَنِ ازْدَادَ كُفْرًا لَمْ يتب، ومن

الصفحة 154