كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 13)

عَائِشَةُ أَمَتَهَا وَكَانَتْ مُدَبِّرَةً لَهَا فَاعْتَرَفَتْ بِالسِّحْرِ وَقَالَتْ سَأَلَتُكِ الْعِتْقَ فَلَمْ تُعْتِقِينِي، فَبَاعَتْهَا عَائِشَةُ وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا أَمَةً أَعْتَقَتْهَا، وَلَوْ كَانَ قَتْلُهَا مُسْتَحَقًّا مَا اسْتَجَازَتْ بَيْعَهَا وَاسْتِهْلَاكَ ثَمَنِهَا عَلَى مُشْتَرِيهَا، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ تُنْكِرُ عَلَيْهَا بَيْعَهَا، وَلِأَنَّ السِّحْرَ تَخْيِيلٌ كَالشَّعْبَذَةِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ فَكَذَلِكَ السِّحْرُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَرَاوِيهِ الْحَسَنُ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ قَدْ لَا يَكُونُ قَتْلًا فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِيهِ: وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَاوِيهِ بَجَالَةُ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ فَكَانَ أَيْضًا مُرْسَلًا وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَذْهَبًا لَهُ، وَأَمَّا حَفْصَةُ فَقَدْ أَنْكَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا قَتْلَهَا وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يُنْكِرْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَضَاهُ لِأَفْعَالِ الْخَالِقِ فَغَلَطٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ، لِأَنَّ غَايَةَ سِحْرِهِ أَنْ يُؤْذِيَ وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْذٍ وَمُضِرٍّ مُضَاهِيًا لِأَفْعَالِ خَالِقِهِ كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ حُكْمُ تَعَلُّمِ السحر: وتعلمه مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّ تَعَلُّمَهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمَا دَعَا إِلَى الْمَحْظُورِ كَانَ مَحْظُورًا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ. فَإِنْ تَعَلَّمَهُ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وَهَذَا مَذْهَبٌ، يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ لَيْسَ بِاعْتِقَادٍ فَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ الْكُفْرُ.
وَالثَّانِي: إِنَّ تَعَلُّمَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَهُوَ لَا يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِ الْكُفْرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكْفُرَ بِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي مُعَلِّمِ السِّحْرِ دُونَ مُتَعَلِّمِهِ وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ مُثْبِتٌ وَالْمُتَعَلِّمَ مُتَخَيِّرٌ كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مُعَلِّمِ الْكُفْرِ وَمُتَعَلِّمِهِ وَعَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا كَفَرَةً بِغَيْرِ السحر والله أعلم.

(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا سَحَرَ رَجُلًا فَمَاتَ سُئِلَ عَنْ سِحْرِهِ فَإِنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ هَذَا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ الْقَتْلَ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ مِنْ عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَكَانَتِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ وَقَدْ عَمَدْتُ قَتْلَهُ بِهِ قُتِلَ بِهِ قَوَدًا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا السِّحْرُ - فَهُوَ مَا يَخْفَى فعله من الساحر ويخفى فِعْلُهُ فِي الْمَسْحُورِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ فِي الدَّعْوَى عَلَى السَّاحِرِ وَلَا تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ فِي الْمَسْحُورِ، فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى سَاحِرٍ أَنَّهُ سَحَرَ وَلِيًّا لَهُ، فَقَتَلَهُ بِسِحْرِهِ لَمْ يَسْتَوْصِفْ عَنِ السِّحْرِ

الصفحة 97