كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 14)

الْتِزَامِهِ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرِينَ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، لِاشْتِرَاكِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمُخَالَفَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَيَجِبُ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالذِّمَّةِ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ. فَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْعُو إِلَى دِينِهِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَاعُ.
وَلَوْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفْرِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قول أبي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُهُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ مُعْتَقَدِهِمَا يُوجِبُ قَطْعَ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَحَاكِمَانِ مِنْ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَذْهَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَسْطُورِيٌّ، وَالْآخَرُ يَعْقُوبِيٌّ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَصَارَا فِيهِ كَالْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ دِينَهُمَا وَاحِدٌ.
فَلَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حَاكِمًا مِنْهُمْ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ لَازِمٍ لَهُمْ، وَكَانَ فِيهِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ شَرْعِهِمْ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ صِحَّةَ الْمُعْتَقَدِ شَرْطٌ في نفوذ الحكم، ومعتقده باطل.
والثاني أنه صِحَّةَ الْحُكْمِ شَرْطٌ فِي نُفُوذِهِ، وَحُكْمُهُمْ بَاطِلٌ.

(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانُوا يَدِينُونَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ حُكْمُنَا عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِهِ وَمَا أَحْدَثُوا مِمَّا لَيَسَ بِجَائِزٍ فِي دِينِهِمْ وَلَهُ حُكْمٌ عِنْدَنَا أُمْضِيَ عَلَيْهِمْ قَالَ وَلَا يَكْشِفُونَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَحَلُّوهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ مُسْتَأَمَنٍ غَيْرِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي بِلَادِنَا مِنْ عَقْدٍ وَأَحْكَامٍ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:

الصفحة 386