كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 16)

وَإِنَّمَا أَحْلَفَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، فَيَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ، إِلَّا بَعْدَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُطَالِبُ الْمَحْكُومَ لَهُ بِكَفِيلٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَتَجَدَّدَ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحُكْمِ فَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُطَالَبَتَهُ بِالْكَفِيلِ لَا تَجِبُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَفَالَةٌ بِغَيْرٍ مُسْتَحِقٍّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَى الْغَائِبِ كَقَضَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالصَّبِيِّ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَخْذُ الْكَفَالَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ لَا تَلْزَمُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
وَيَشْتَرِطُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ عَلَى الْغَائِبِ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى حَقٍّ وَحُجَّةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ إِطْلَاقُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ إِبْطَالَ حُجَجِهِ وَتَصَرُّفِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا فِي إِعْمَالِ هَذَا الْقَاضِي: لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نَائِبٌ مُرَتِّبٌ لِلْأَحْكَامِ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا.
فَإِنْ كَانَ لَهُ نَائِبٌ فِي بَلَدِ الْغَائِبِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِحْضَارُهُ وَكَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْأَصْلَحِ لِلْخَصْمِ مِنْ إِنْفَاذِهِ إِلَى خَلِيفَتِهِ لِمُحَاكَمَةِ خَصْمِهِ، أَوْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَمُكَاتَبَةِ خَلِيفَتِهِ به.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْغَائِبِ خَلِيفَةٌ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ يَرْجِعُ مِنْهَا إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ مَنَامِ النَّاسِ أَحْضَرَهُ وَإِنْ بَعُدَ عَنْهَا لَمْ يُحْضِرْهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْضَرُ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُحْضِرُهُ لِلْمُحَاكَمَةِ لِئَلَّا يَتَمَانَعَ النَّاسُ فِي الْحُقُوقِ بِالتَّبَاعُدِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِحْضَارُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ شَرْطًا فِي انْتِقَالِ وِلَايَةِ الْغَائِبِ فِي النِّكَاحِ إِلَى الْحَاكِمِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارٍ فِي إِحْضَارِ الْخَصْمِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِلتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدَّمِ.
وَإِذَا لَزِمَ إِحْضَارُ الْغَائِبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْضِرَهُ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَصِحَّةِ سَمَاعِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى.
حُكِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَا إِلَى قَاضٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَخَا هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ هَذَا قَتَلَهُ غَيْرِي فَمَاذَا عَلَيَّ.

الصفحة 304