كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 16)

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْمَأْمُورِ عَلَى الْآمرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَلْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ دُونَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إِلَى الْمَأْمُورِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَةِ الْآمرِ.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ كَمَا نُسِخَتْ آيَةُ الوصايا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ اتبع إلا ما يوحى إلي) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[يونس: 15] .
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزبير عن جابر قال: قال رسو ل الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَلَامِي لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ كَلَامِي، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَالَّذِي نَسَخَ آيَةَ الْوَصَايَا هُوَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا.
وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْكَدُ مِنَ السُّنَّةِ وَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ تَأَوَّلَهُ فِي الرِّسَالَةِ وَاسْتِشْهَادُهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ أَنْفَذُ حُكْمًا مِنَ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ عَلَى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَقَدَهُ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَمَّا جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً وَطَلَبَهَا أَخَوَاهَا مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ رَدِّهَا وَنَسَخَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكفار} . .
فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَرِيقِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ فِي الشَّرْعِ مَعَ جَوَازِهِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا تُوجَدُ سُنَّةٌ إِلَّا وَلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلٌ كَانَتِ السُّنَّةُ فِيهِ بَيَانًا

الصفحة 78