كتاب الحاوي الكبير (اسم الجزء: 17)

قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَتَّى يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ.
وَدَلِيلُنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] فَنَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالزِّنَا.
فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ، لِأَنَّ المراسيل حجة عندهم، ولأن كلما لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ إِذَا لَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يُقْبَلْنَ فِيهِ مَعَ الرِّجَالِ، كَالْقِصَاصِ.
وَإِنِ اعْتَرَضُوا بِالْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ الْمَالَ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَهَلَّا جَازَ إِثْبَاتُهُمَا بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ؟
قِيلَ: لَيْسَ فِي عَقْدِ الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ مَالٌ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِمَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ أُقِيمَ الرَّجُلُ فِيهَا مَقَامَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا فِي الْعَدَدِ. فَأَعْلَاهَا الزِّنَا، وَأَدْنَاهَا الْخَمْرُ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا فِي الْجِنْسِ فَأَعْلَاهَا، حُقُوقُ الْأَبْدَانِ، وَأَدْنَاهَا، حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ فِيهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا وَالْإِبَاحَةُ لَهَا.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، وَاخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الصَّدَاقِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ سُمِعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي النِّكَاحِ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَالٌ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ، وَيَصِحُّ انْفِرَادُ هَذَا بِهِ.
وَلَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلَوِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ، وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ سُمِعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّ بَيِّنَةَ الزَّوْجَةِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَاقِ، وَبَيِّنَةَ الزوج لإثبات المال.

الصفحة 9