كتاب حز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر

فَوَقع إِيمَان الْمُؤمنِينَ بمشيئتهم وَنفى أَن يشاءوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلِهَذَا أفرطت الْمُجبرَة لما رَأَوْا أَن هدايتهم معذوف بمشيئته تَعَالَى فَقَالُوا الْخلق مَجْبُورُونَ فِي طاعتهم كلهَا إلتفاتا مِنْهُم إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} وفرطت الْقَدَرِيَّة لما رَأَوْا أَن هدايتهم إِلَى الْإِيمَان معذوف بِمَشِيئَة الْعباد فَقَالُوا الْخلق خالقون لأفعالهم إلتفاتا مِنْهُم إِلَى قَوْله تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم} ومذهبنا هُوَ الاقتصاد فِي الِاعْتِقَاد وَهُوَ مَذْهَب بَين مذهبي الْمُجبرَة والقدرية وَخير الْأُمُور أوساطها وَذَلِكَ أَن أهل الْحق قَالُوا نَحن نفرق بَين مَا اضطررنا إِلَيْهِ وَبَين مَا اخترناه بِمَا كُنَّا قدمْنَاهُ فِي صدر الْكتاب وَهُوَ أَنا ندرك تفرقه بَينه بَين حَرَكَة الارتعاش الْوَاقِعَة فِي يَد الانسان بِغَيْر محاولته وإرادته وَلَا مقرونة بقدرته وَبَين حَرَكَة الِاخْتِيَار إِذا حرك يَده حَرَكَة مماثلة لحركة الارتعاش وَمن لَا يفرق بَين الحركتين حَرَكَة الِاخْتِيَار وحركة الارتعاش وهما موجودتان فِي ذَاته ومحسوستان فِي يَده لمشاهدته وَإِدْرَاك حاسته فَهُوَ معتوه فِي عقله ومختل فِي حسه وخارج من حزب الْعُقَلَاء
هَذَا هُوَ الْحق الْمُبين وَهُوَ طَرِيق بَين طريقي الافراط والتفريط وكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَبِهَذَا الِاعْتِبَار إختار أهل النّظر من الْعلمَاء أَن سموا هَذِه الْمنزلَة بَين المنزلتين كسبا وَأخذُوا هَذِه التَّسْمِيَة من كتاب الله عز وَجل وَهُوَ قَوْله سُبْحَانَهُ {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَظهر لَك من هَذَا أَن إكتسابات الْعباد خلق لله تَعَالَى دونهم وَكسب لَهُم دون الله تَعَالَى لِأَن الْكسْب لَا يتَصَوَّر من الله تَعَالَى لتَعَلُّقه بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَة وَلَا يتَصَوَّر الْخلق من المخلوقين لعدم علمهمْ بتفاصيل مَا يصدر مِنْهُم وَلما قَامَ من الدَّلِيل أَن لَا خَالق إِلَّا الله وللفقيه أبي الْقَاسِم رَحْمَة الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تصنيف ممتع بَين فِيهِ حَقِيقَة الْكسْب أملاه عَليّ فاطلبه
وَقد قَامَت الْأَدِلَّة البراهينية فِي الْآيَات الْكِتَابِيَّة أَن الله سُبْحَانَهُ {خَالق كل شَيْء} وَأَن كلا من عِنْد الله وَأَن الله {خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن}

الصفحة 88