كتاب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (اسم الجزء: 4)

وفي "الجمل" (¬1) قوله: {وَلَا نَوْمٌ} رتَّبَهما بترتيب وجودهما؛ إذ وجود السِّنَة سابق على وجود النوم، فهو على حدٍّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها؛ قصدًا إلى الإحاطة والإحصاء. والمعنى: أنه تعالى لا يغفل عن دقيق، ولا عن جليلٍ. عَبَّر بذلك عن الغفلة؛ لأنه سببها فأطلق اسم السبب على المسبِّب. والسِّنةُ: ما يتقدَّم النومَ من الفتور مع بقاء الشعور، وهو المسمَّى: بالنعاس. والنومُ: حالةٌ تعرض بسبب استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبة الأبخرة المتصاعدة، فتمنع الحواس الظاهرة من الإحساس رأسًا، ويمكن إيقاظ صاحبه. وقيل: النوم مزيل للقوة والعقل، وأمَّا السِّنة: ففي الرأس، والنعاس: في العين وقيل: السِّنةُ هي: النعاس. وقيل السِّنةُ: ريح النوم تبدو في الوجه، ثم تنبعث إلى القلب، فينعس الإنسان فينام. انتهى.
وقال الشوكاني (¬2): وإذا ورد على القلب والعين دفعةً واحدة، فإنه يقال له: نوم، ولا يقال له: سِنة، فلا يستلزم نفيُ السِّنة نفيَ النوم، وقد ورد عن العرب نفيُهما جميعًا، ومنه قول زهير:
لاَ سِنَةٌ طِوَالِ اللَّيْلِ تَأْخُذُهُ ... وَلاَ يَنَامُ وَلاَ فِي أَمْرِهِ فَنَدُ
فلم يكتفِ بنفي السِّنةِ.
وأيضًا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السِّنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم؛ فقد يأخذه النومُ، ولا تأخذه السِّنة. فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السِّنة .. لم يُفِدْ ذلك نفيَ النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم .. لم يُفِدْ نفيَ السِّنة، فكم من ذي سِنة غير نائم، وكُرِّرَ حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. انتهى.
وأخرج مسلم عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بخمس كلماتٍ فقال: "إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا ينام، ولا ينبغي
¬__________
(¬1) جمل.
(¬2) فتح القدير.

الصفحة 20