كتاب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (اسم الجزء: 5)

تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} وقيل: هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ} وقال أبو بكر الوراق: معنى الآية: لن تنالوا بري لكم إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، وقيل: المعنى لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارًا إلا بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم. قاله ابن عطية. ومن في قوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله الشاذة: {حتى تنفقوا بعض ما تحبون} {وَمَا}: موصولة. خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص، وحسن النية، ولكنكم أيها المدعون لتلك الدعاوي آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئًا من ماله، فإنما ينفق من أردأ ما يملك، وأبغضه إليه؛ لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره، تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب، فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين، وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟ والمعنى: لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته، برضاه عنهم، وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم، حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم. وقد أثر عن السلف الصالح: أنهم إذا أحبوا شيئًا .. جعلوه لله تعالى.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله عَزَّ وَجَلَّ، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بخ بخ - كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء - ذاك مال رابح، أو قال: ذلك مال رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، متفق عليه، وفي رواية لمسلم:

الصفحة 11