كتاب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (اسم الجزء: 8)

عبادة الشريك المتخذ هي غير عبادة الله تعالى خالق السموات والأرض، سواء اعتقد أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالًا، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب، أو بالوساطة عند الله؛ أي: بِمَالَه من التأثير والكرامة على النفع والضر، وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة، كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
وقَلَّ أن يوجد من المشركين من يتخذ إلهًا غير الله متجاوزًا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره، فالإيمان الفطري الذي غرس في نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادًا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره .. فبإقدار الله إياه، وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يعظمون من خلقه تارة أخرى؛ كالشمس والنجوم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانًا إليهما معًا، فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.
والخلاصة: أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره، سواء أكانت خالصة لذلك الغير، أو شركة بينه وبين غيره، وقد نعى الله تعالى عليهم اتخاذ المسيح إلهًا في مواضع عديدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية، أنكرت عبادتها فرقة إصلاح المسيحية التي جاءت بعد الإِسلام بزمن طويل. وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر في الدنيا والآخرة؛ إما بنفسها أو بواسطة ابنها، ويسمونها: والدة الإله.

الصفحة 165