كتاب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (اسم الجزء: 12)

97 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين بالمدينة .. ذكر حال من كان خارجًا عنها من الأعراب، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر غيرهم، ومن نفاق غيرهم؛ لأنهم أقسى قلبًا وأغلظ طبعًا وأجفى قولًا وأبعد عن سماع كتب الله، وما جاءت به رسله، فقال: {الْأَعْرَابُ}؛ أي: جنس أهل البدو {أَشَدُّ كُفْرًا} مجاهرًا {وَنِفَاقًا} مبطنًا من أهل الحضر، لتوحشهم، واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وبعدهم عن أهل العلم {وَأَجْدَرُ} وأحق بـ {أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ} وتكاليف وفرائض وأحكام {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى رَسُولِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده، كما في قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}؛ إذ ليس كلهم كما ذكر، على ما ستحيط به خبرًا، كما ذكره "أبو السعود": أي: إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين:
1 - أن كفارهم ومنافقيهم أشدّ كفرًا ونفاقًا من أمثالهم، من أهل الحضر، ولا سيما، من يقيم منهم في المدينة، فهم أغلظ طباعًا، وأقسى قلوبًا؛ لأنهم أفنوا جلَّ أعمارهم في رعي الأنعام، وحمايتها من ضواري الوحوش، إلَّا أنهم محرومون من العلوم الكسبية، والآداب الاجتماعية.

2 - أنهم أحق وأحرى من أهل الحضر، بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، من الهدى والبينات في كتابه، وما أتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود؛ تارة بالقول، وأخرى بالفعل، وكان صحابته في المدينة وما حولها، يتلقون عنه الكتاب حين نزوله، ويشهدون سنته في العمل به، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت، يبلغون الناس القرآن، ويحكمون به وبسنّة رسوله المبينة له، وكلّ هذا لم يكن مستطاعًا لأهل البوادي، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية.
روى أبو داود والبيهقي، عن أبي هريرة مرفوعًا: "من بدا جفا، ومن اتبع الصّيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدًا". ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول، ويؤثرهم بالنصح، ولا يزداد منهم قربًا، إلا المراؤون، الذين يعينونهم على الظلم، ويثنون عليهم بالباطل.

الصفحة 14