كتاب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (اسم الجزء: 16)

التفسير وأوجه القراءة

50 - ثمّ إنه تعالى عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصّة آدم، واستكبار إبليس فقال: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصّة وقت قولنا للملائكة: {اسْجُدُوا} يا ملائكتي {لِآدَمَ} سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، وكان ذلك مشروعًا في الأمم السالفة، ثم نسخ بالسلام {فَسَجَدُوا}؛ أي: فسجدت الملائكة جميعًا، امتثالًا لأمر الله وطاعة لطلبه السجود {إِلَّا إِبْلِيسَ} اللعين فإنه أبى واستكبر، ولم يسجد، وكأنه قيل: ما باله لم يسجد؟ فقيل: {كانَ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: كان أصله جنيًا خلق من نار السموم، ولم يكن من الملائكة، فلهذا عصى، فالجملة مستأنفةٌ مسوقة لبيان سبب عصيانه.
وإنّما صح (¬1) الاستثناء المتّصل لأنه أمر بالسجود معهم، فغلبوا عليه في قوله {فَسَجَدُوا} ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلًا كقولك: خرجوا إلّا فلانة، لا مرأة بين الرجال.
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}؛ أي: خرج عن طاعته بترك السجود، فالأمر على حقيقته جعل عدم امتثاله للأمر خروجًا عنه، ويجوز أن يكون المراد المأمور به، وهو السجود، والفاء للسببية لا للعطف؛ أي: كونه من الجن سبب فسقه، ولو كان ملكا .. لم يفسق عن أمر ربه؛ لأن الملك معصوم دون الجن والإنس.
والمعنى (¬2): واذكر - أيها الرسول - لقومك وقت قولنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية وتكريم اعترافًا بفضله، واعتذارًا عما قالوه في شأنه من نحو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} فسجدوا كلهم أجمعون امتثالًا إلا إبليس، ثم بيّن السّبب في عصيانه، ومخالفته للأمر فقال: {كانَ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: إن الذي منعه من السجود أنّه كان جنّيًا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورًا بينهم متّصفًا بصفاتهم، بدليل أنه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، ولأنه أثبت له في هذه الآية ذريةً ونسلًا، والملائكة لا ينسلون، ولأن الملائكة لا يستكبرون
¬__________
(¬1) روح البيان.
(¬2) المراغي.

الصفحة 406