كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 2)

مقتض الفطرة والعقل قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} [سورة السجدة، الآية: 18] وقال ابن الأعرابي: لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب وإنما قالوا فسقت الرطبة عن قشرها. أنتهى. وفي الدرّ المصون زعم ابن الأنباري أنه لم يسمع في كلام الجاهلية ولا في شعرها فاسق، وهذا عجيب منه وقد قال رؤبة يذهبن في نجد وغوراً الخ (أقول) الظاهر أنه يعترض على ما ذكر بأنه كيف ينكر هذأ مع وروده في الأشعار القديمة كثيراً لا سيما وقد جاء في أفصح الكلام ولذا عده عجيباً، والعجب ممن لم يقف على المراد وحاد على طريق السداد فإن هذا مما اتفق عليه أئمة اللغة وقد عقد له ابن فارس في فقه اللغة بابا والعجب من صاحب المزهر أنه نقله عنه وتغ هنا المعرب وليس غفلة منه وإنما هو تغافل كما قيل:
ليس الغبيّ بسيد في قو! لن سيدهم هو المتغابي
قال ابن فارس رحمه الله في معرفة الألفاظ الإسلامية: كانت العرب في جاهليتها على
إرث من آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكم وقوانينهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضع أخر وعد منها حتى قال: ولم يعرفوا الفسق إلا قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها فجاء الشرع بأنّ الفسق إلافحاس في الخروج عن طاعة الله تعالى انتهى. وهكذا قاله غيره من أهل اللغة من غير تردد فيه وحاصله أنه خروج الأجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء من كون لآخر من حيز إلى حيز فنقله الشرع في الإسلام إلى خروج العقلاء من الناس عن الطاعة وشاع بعد ذلك حتى صار حقيقة عرفية لغوية ومنه بيت رؤبة فإنه ليس شاعرا جاهليا مع أنه في خروج الإبل وهي لا تعقل أيضا فلم يخرج عن الوضع، ومما أحدثوه منه الفويسقة للفأرة والفاسقية لعمامة كانت معروفة
في العهد الأول وأما الفسقية للحوض فلم يرد في كلام العرب ولا أدري ما أصلها وبعض المتأخرين توهمها منسوبة للفسق فقال:
هجوت فسقيتكم عامداً لأنها في اللهو أصلية
أليس في فسق جمعتم بها فحق أن تدعي بفسقية
قوله: (قال رؤبة الخ) هو رؤبة بن العجاح الراجز المشهور وهو شاعر إسلاميّ بليغ يستدل بكلامه ورؤبة براء مهملة مضمومة يليها همزة ساكنة ثم باء موحدة وهاء تأنيث ويجوز إبدال همزته واواً لسكونها بعد ضمة وقوله في أدب الكاتب إنه بالهمزة لا غير مما خطئ فيه، وقد يقال مراده أنّ هذه مادّته الأصلية فلا خطأ فيه وهو علم منقول وأصله من رأب الشيء إذا أصلحه والبيت من أرجوزة طويلة له وهو:
يذهبن في نجد وضوراً غائراً فواسقا عن قصدها جوائرا
وهو من صفة نوق وإبل سائرة في المفازة والنجد ما ارتفع من الأرض! وبه سميت بعض
بلاد العرب والمراد الأوّل والغور بالفتح ما انخفض منها وغائرا صفة له من لفظه مؤكدة كليل أليل، وقوله يذهبن للنوق وفواسق بمعنى خوارج، والقصد هنا بمعنى الطريق المستقيم ويكون بمعنى الإرادة وجوائرا من جار عن الطريق إذا انحرف عنها وصرف فواسق وجوائر للضرورة أي أنّ الإبل تصعد وتهبط إذا عدلت عن جادّة السبيل. قوله: (والفاسق في الشرع الخ) يعني أنه نقل لكل خروج عن طاعة الله فيشمل الكفر والكبيرة والصغيرة لكنه اختص في العرف والاستعمال بمرتكب الكبيرة فلا يطلق على الآخرين إلا نادراً بقرينة ويدخل في أمر الله نهيه أيضاً بطريق اللزوم والدلالة إذ لا فرق بينهما وفي الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو على أن المراد بالأمر واحد الأمور، وهو ما جاء من قبل الله مطلقا والكلام في الكبيرة والاختلاف فيها مشهور وسيأتي، والمراد به ما كان شنيعاً من المحرّمات ويدخل فيه الإصرار على الصغيرة لأنها تصير كبيرة على ما اشتهر فلا حاجة إلى أن يزاد فيها هنا أو الإصرار على الصغيرة قيل: ولو ذكر كان أحسن، والتغابي بالمعجمة التغافل من غير غفلة كالتجاهل لمن يظهر والجهل وليس بجاهل من الغباوة وهي ضد الفطنة وف3 ارتكاب الكبيرة وما في حكمه إلى ثلاثة أقسام وفسر الأوّل بأن

الصفحة 101