كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 2)

والالتفاف اتصال بعضها ببعض كأنها تلف. وقوله: للمبالغة تعليل للتسمية بالمرّة دون المصدر والصفة ومنه الجن لمقابل الإنس لاستتارهم عن العيون وكذا الجنون لستره العقل والمجن للترس وغيره. قوله: (كأق عينئ الخ) هو من قصيدة طويلة لزهير بن أبي سلمى يمدح بها ممدوحه هرم بن سنان المشهور وأولها:
إنّ الخليط أجد البين فافترقا وعلق القلب من أسماء ما علقا
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
ومنها:
كأنّ عينيّ في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا
ومنها:
إن تلق يوما على علاته هرما تلق السماحة منه والندى خلقا
وليس مانع ذي قربى ولا رحم يوماً ولا معدما من خابط ورقا
الخ. وهو شاهد لإطلاقه على الشجر بدون الأرض وقد يطلق عليهما وقال الراغب:
الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل تول زهير وفي الكشاف الجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه قال زهير: الخ وعينيّ فيه تثنية عين بمعنى الجارحة والغرب الدلو الكبير، والمقتلة بصيغة المفعول
من تفعيل القتل بمعنى الناقة التي كثر استعمالها حتى سهل انقيادها والنواضح جمع ناضح وهو البعير الذي يستقى عليه ويستعمل في إخراح الماء من الآبار والسحق بضمتين جمع سحوق وهي النخلة الطويلة المرتفعة جداً وخصها لاحتياجها لكثرة الماء فهي أوقع وأبلغ هنا فقول بعض الأدباء إنه حشو الأجل القافية لا فائدة فيه لا وجه له، وقال شرّاح الكشاف أنه بالغ في تذراف الدموع فاختار الغرب وهي الدلو العظيمة وثناها تنبيها على دوام الانسكاب بتعاقبهما في المجيء والذهاب إذ لا تزاق تصب واحدة وترسل أخرى وذكر المقتلة لأنها تخرج الدلو ملأى ووصفها بأنها من النواضح المتمرّنة على هذا العمل وأورد الجنة الدالة على الكثرة والالتفاف والنخل المفتقرة لكثرة السقي لا سيما السحق منها، والمعنى كما في شرح الديوان أنه يقول لما يئست منهم لم أملك دموعي فكأنها من كثرتها تسيل من دلوي ناقة مذللة للعمل لا تريق شيئاً مما في الدلو بل تخرجها تامّة مملوءة، وقال قدس سرّه كان الظاهر أن يقول كأنّ عينيّ غربا مقتله لكنه أتى بكلمة في كأنه يدعي أن ما ينصب من الغربين منصب من عينيه ولم يزد على هذا فكأنه تجريد كما في قولهم في الله كاف، وبه صرّح الطيبيّ ولا يخفى أن التجريد لا يصرّح فيه بأداة التشبيه لأنه من التشبيه البليغ عندهم والتصريح بالتشبيه فيه لا نظير له، ومن الخيالات ما قيل هنا من أنّ المراد بالنخل الطوال خيالات قامات الأحبة فكأن عينيه تسقي تلك الخيالات فتأمل وتحمل. قوله: (ثم البستان لما فيه الخ) معطوف على قوله الشجر والبستان يطلق على الأرض التي فيها الأشجار وعلى الأشجار وحدها وورد في شعر الأعشى بمعنى النخل خاصة كما ذكره الجواليقيّ في كتاب العرب، وقد عرّبته العرب قديما واستعملته بهذين المعنيين وأصله بالفارسية بوي ستان وبوي الرائحة الطيبة وستان بمعنى المكان والناحية فخفف بحذف الياء والواو وخص بأرض الأشجار التي تعطر بروض النسيم وطيب الأزهار ثم عرّب ونقل بهذا المعنى ثم توسعوا فيه فاطلقوه على الأشجار نفسها وقول بعض المتأخرين أنه من اللغات المشتركة فإنه في العربية أرض ذات حائط فيها أشجار وفي الفارسية مركب من كلمتين ومعناه التركيبي ناحية الرائحة وقد وهم فيه صاحب القاموس حيث قال: إنه معرب بوسنان انتهى. وهم من ابن أخت خالته ظاهر لمن عنده أدنى شبهة من الإنصاف، وليس الحاصل عليه إلا محبة الخلاف، ومثل البستان في معنييه الجنة فتطلق على الأرض بأشجارها وعلى الأشجار وحدها كما ذكره المصنف رحمه الله وعدل عن قول الزمخشريّ الجنة البستان من النخل والشجر لما فيه من الإيهام والاقتصار على أحد معنييه لا لما قيل من أنه قصد الردّ عليه حيث استشهد بالبيت على تسمية البستان بالجنة، وأعجب منه متابعة الشرّاح له انتهى. وقال قدس سرّه: أطلق الشاعر الجنة على النخيل ولا ينافيه قول الزمخشريّ الجنة البستان الخ إذ لا يعلم منه أنها نفس الأشجار أو الأرض التي

الصفحة 63