كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 3)

هذا للجنس لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل المراد أنّ هذا الجنس خير من هذا كقولهم الرجل خير من المرأة ويؤيد كونه من كلامها عطف قولها: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} قال في الانتصاف أورد على هذا الوجه أن قياس كونه من قولها أن يقال وليس الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر، والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وقد وجدت الأمر في ذلك! ختلفاً ولم يتبين لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} [سورة الأحزاب، الآية: 32] فنفي عن الكامل شبه الناقص لأنّ الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ومنه أيضاً أفمن يخلق كمن لا يخلق انتهى.
(قلت) : إذا دخل نفي بلا أو غيرها أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه أو ببعضها أحتمل معنيين تفضيلى المشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى
كقولك ليس زيد كحاتم في الجود، ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب ماء ولا كصدى مرعى ولا كالسعدان فتى ولا كمالك وقوله:
طرف الخيال ولا كليلة مدلج
ووقع في شروح المقامات وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وإن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري: في قوله في مقاماته غدوت ولا اغتداء الغراب، وما يشبهه كقوله في خطبة التلويح نال حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار أي، ولا مثل ذلك فحذف مثل المنصوبة بلا وأقيم المضاف إليه مقامها وأراد أن اغتداءه كان قبل اغتداء الغراب الذي هو أكثر الطير بكورا، وهذا وأمثاله في هذا الكتاب معناه أن المشبه أقوى من المشبه به ولم يأت هذا عن العرب كما مر مثاله، وليس مذهبهم في ذكر لا بين المشبهين وإنما هو من كلام العامة، ووقع مثله في مقامات البديع، وما نقله المحشي مبنيّ على هذا فأشار إلى أنه ليس بلازم كما ورد في الآيات المذكورة، ومما أورده الثعالبي من خلافه في كتابه المنتخب فلأن حسن، ولا القمر وجواد ولا المطر على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أنّ ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين، لا في كلى نفي وهذا من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها، ولم أر من صرح به حتى وقع في بعض حواشي التلويح فيه خبط لعدم الضبط وقيل قول المصنف ليس الذكر والأنثى سيان إشارة إلى أن التشبيه ليس لإلحاق الناقص بالكامل والا ينبغي أن يقال: وليس الأنثى كالذكر بل للتشابه، والمراد نفي المساواة واللام للجنس على هذا التوجيه لأنها تريد ليس جني الأنثى كالذكر في خدمة بيت المقدس، وعلى الوجه الأوّل هذه الجملة معترضة من متكلم آخر نحو قلت: ضربت زيدا ونعم ما فعلت وبكراً وخالدا بخلافه على هذا أو هما كلام متكلم واحد بالنظر إلى الحكاية لا المحكي فتأمّل. قوله: (وإنما ذكرت ذلك لربها تقرباً لخ (يفهم التقرب من كون مريم بمعنى عابدة، وفهم التغاير ظاهر لتغاير المفعولين، وقد مرّ لمريم معنى آخر وقد سبق أنها معرّبة مارية بمعنى جارية وهو أصح عندي. قوله: (أجيرها بحفظك الخ (أصل العوذ كما قاله الراغب رحمه الله: الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية والرجيم المرجوم استعمل
في لازم معناه وهو المطرود وما ذكره من الحديث رواه الشيخان فقوله في الكشاف: الله أعلم بصحته فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر، الآية: 40] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول هذا ممن أغويه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي: لماتؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس النخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطاً مما يبلونا به من نخسه انتهى، يريد أنه من التخيلات الادّعائية وليست كذلك في الواقع، وقد استعمله ابن الرومي على نهج حسن التعليل فالاستهلال صارخا أي الابتداء به واقع عنده، والمس

الصفحة 21