كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

والنفي لسلب العموم واحتمال الثاني لا يضرنا لأنه يكفي الاحتمال الأوّل في إبطال الاستدلال، ثم تنزل عن منع الكلية فقال مع أن النفي لا يوجب الامتناع، وقيل عليه لا يخفى إنّ حديث التمذج يدفعه (قلت أليس هذا بمسلم عندنا، وكيف يتمذح بنفي ما أثبته الكتاب والسنة بل إنما ذكر للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر كما أشار إليه الطيبي، وقد روي في تفسير الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة.
قوله: (يحيط علمه بها) قيل الأنسب بالمقام إنه علم بطريق الرؤية، ويجوز تعميمه أيضأ. قوله: (فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار (فهذه الجملة سيقت لوصفه تعالى بما تضمن تعليل قوله وهو يدرك الأبصار فقط على هذا الوجه، ثم إنّ المراد بالإبصار هنا النور الذي يدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى، أو يقال المراد أنّ كل عين لا ترى نفسها ووقع في نسخة بدل كالإبصار بالإبصار على صيغة المصدر. توله: (ويجوز أن يكون من باب اللف الخ) فإنّ اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه مدركا بالكسر، وبقوله فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف فشبه به الخفيّ من الإدراك اندفع ما قيل إنّ المناسب لعدم الإدراك اللطيف المشتق من اللطافة وهو ليس بمراد هنا، وأما اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة فلا يظهر له مناسبة هنا، وفي شرح الأسماء الحسنى لمحمد البهائيّ اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والآخرة، وان تعذوا نعمة الله لا تحصوها، والله لطيف بعباده يرزق من يشاء، هيأ مصالح الناس من حيث لا يشعرون وأخفى لهم لطفه من حيث لا يعلمون، وقيل اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف، ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكنافة، وهو وان كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم، لأن الجسمية يلزمها الكنافة وإنما لطافتها بالإضافة فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلاً عن الإبصار ويعز عن شعور الإسرار فضلا عن الأفكار، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والإشكال، فانّ كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف بالنسبة إليه بالكنافة انتهى.
وهذا يقتضي أنه حقيقة فيه تعالى فتأمّله، والخبير للمبالغة فيه يكون علة، والمقام وان اقتضى ترك العطف لكن المقصود به إثبات هذه الأوصاف والتعليل الذي أشار إليه المصنف
رحمه الله ضمنيّ، وقوله لما لا يدرك بالحاسة أي ليس شأنه ذلك فلا يقال إذا كان اللطيف بمعنى ما لا تدركه الأبصار كيف يعلل الشيء بنفسه فلا يرد هذا كما توهم، وقوله: ولا ينطبع فيها أي لا ينطبع ويرتسم مثاله فيها وإلا فالشيء نفسه لا ينطبع ففيه تسمح، وهذا أحد المذاهب في كيفية الرؤية وتحقيقه في كتب الحكمة والكلام، وقوله: (وهي للنفس الخ) المعروف إنها للقلب كالبصر للعين، وقوله: (تجلى) بمعنى تظهر وتكشف، وقوله: (الدلالة) فجمعه باعتبار أنواعه وقيل المراد آيات القرآن. قوله: (فلنفسه أبصر) قدره غيره فلنفسه الإبصار، وقدّره أبو حيان فيهما بقوله فالإبصار لنفسه أي نفعه وثمرته، ومن عمى فعليها أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه، والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال، قال: وهذا الذي قدرناه من المصدر وهو الإبصار والعمى أولى لوجهين أحدهما أنّ المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجارّ والمجرور عمدة لا فضلة، وفي تقدير غيره المحذوف جملة والجارّ والمجرور فضلة ولأنه لو كان المقدر فعلا لم تدخله الفاء سواء أكانت شرطية أو موصولة مشبهة بالشرط لأنّ الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً، ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط، ولا في خبر المبتدأ لو قلت من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديرنا، وهو غير وارد، لأنه ليس كالمثال الذي ذكره بل مثاله من جاءني، فلا كرامة جاء إذ تقدم فيه الجارّ والمجرور لإفادة الحصر والجاز والمجرور إذا تقدم على الماضي جاز اقترانه بالفاء، بل قيل: إنها لازمة له كما صرّح به النحرير، والمعرب السفاقسي، ففي هذه المسالة ثلاثة مذاهب المنع، وهو مختار أبي حيان والجواز

الصفحة 108